من قمّة شرم الشيخ التي حضرها الرئيس عبد الفتّاح السيسي ووليّ عهد أبو ظبي الشيخ محمّد بن زايد ورئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت… إلى اجتماع النقب الذي شاركت فيه مصر عبر وزير الخارجية سامح شكري، من المفيد التوقّف عند الدور النشط والمحوري الذي عادت القاهرة تلعبه على الصعيد الإقليمي.
هذا الدور لا سابق له منذ ذهب أنور السادات إلى القدس في 19 تشرين الثاني من العام 1977، وألقى في الكنيست خطابه المشهور الذي قال فيه للإسرائيليين: “جئت حاملاً إليكم سلام الشجعان لا سلام المغلوب على أمرهم”.
ما نشهده حالياً هو خروج لمصر، بكلّ ما تمثّله عربيّاً وإقليمياً، من القمقم في وقت يتبيّن يوميّاً أنّ المستفيد الأوّل من الغياب المصري، على الصعيد العربي، كان إيران التي راهنت منذ العام 1979 على المتاجرة بالقضيّة الفلسطينيّة، وبالقدس تحديداً، واستمرار حال اللاحرب واللاسلم في المنطقة. أمّا لبنانيّاً، فكان النظام السوري الرابح الأوّل من عزل مصر عربيّاً نظراً إلى أنّه كان يريد الاستفراد بالبلد واستخدامه “ساحة” بالتفاهم مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” والتنسيق معها في كلّ المجالات.
جاء الآن دور مصر في تصحيح التاريخ وإعادة الأمور إلى نصابها في منطقة تبدو مقبلة على تغييرات كبيرة في ظلّ غياب أميركي واضح باستثناء الاندفاع في اتجاه إيران
أثمرت زيارة السادات للقدس معاهدة سلام مع إسرائيل وُقّعت في السادس والعشرين من آذار 1979، وذلك بعد التوصّل إلى اتفاقية كامب ديفيد في أيلول من العام 1978. يجدر التوقّف عند كلّ تاريخ من هذه التواريخ، منذ ذهاب السادات إلى القدس، والتمعّن في معناه وأبعاده. لكنّ ما لا يمكن تجاهله أنّ مصر انكفأت عربيّاً ولبنانياً منذ توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل. انكفأت طوال 43 عاماً كي تعود إلى الواجهة في وقت تمرّ فيه المنطقة كلّها في مرحلة بالغة الخطورة بعدما توجّهت إدارة جو بايدن إلى عقد صفقة مع إيران تطلق يدها خارج حدودها تحت عنوان منعها من تطوير سلاح نووي.
تكفّل هذا العنوان، في الماضي، بتمكين “الجمهوريّة الإسلاميّة” من ابتزاز إدارة باراك أوباما إلى أبعد حدود. الدليل على ذلك هو التوصّل إلى الاتفاق في شأن البرنامج النووي لإيران صيف العام 2015، وهو اتّفاق مكّن “الجمهوريّة الإسلاميّة” من الحصول على ما يكفي من الموارد المالية لدعم مشروعها التوسّعي الذي في أساسه ميليشيات مذهبيّة تابعة لـ”الحرس الثوري” في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
فخّ حافظ الأسد
بعد 43 عاماً على توقيع المعاهدة المصرية – الإسرائيلية في مثل هذه الأيّام من العام 1979، يتبيّن كيف سقط العرب ضحيّة الفخّ الذي نصبه لهم حافظ الأسد الذي عمل على عزل مصر بعد زيارة أنور السادات للقدس. استعان الأسد الأب وقتذاك بغباء صدّام حسين، الحاكم الفعلي للعراق، الذي سار في ركابه. كان الفلسطينيون الضحيّة الأولى لهذا السقوط في فخّ حافظ الأسد. لم يستعيدوا حدّاً أدنى من استقلاليّة القرار الفلسطيني إلّا بعد عودة ياسر عرفات إلى مصر في العام 1983.
أمّا سوريا، فهي تدفع ثمن ذهابها إلى الحضن الإيراني بعيداً عن مصر. سقط حافظ الأسد ضحيّة اعتقاده أنّ في استطاعته أن يمارس مع إيران اللعبة التي مارسها مع العرب الآخرين… أي لعبة الابتزاز الدائم.
جاء الآن دور مصر في تصحيح التاريخ وإعادة الأمور إلى نصابها في منطقة تبدو مقبلة على تغييرات كبيرة في ظلّ غياب أميركي واضح باستثناء الاندفاع في اتجاه إيران. تبرّر الإدارة هذا الاندفاع بالرغبة في تعويض النقص في النفط والغاز الذي تسبّبت به حرب أوكرانيا.
قفزت مصر إلى الواجهة في الوقت المناسب. استضافت قمّة شرم الشيخ الثلاثيّة، وما لبث الرئيس السيسي أن حضر قمّة العقبة التي ضمّت الملك عبدالله الثاني والشيخ محمّد بن زايد ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي ووزير الدولة السعودي الأمير تركي بن محمّد بن فهد بن عبد العزيز. معروف أنّ الأمير تركي قريب من الأمير محمّد بن سلمان وليّ العهد السعودي. معروف أيضاً أنّ الهدف من لقاء العقبة ربط البصرة بالعقبة عبر خط أنابيب ينقل النفط العراقي إلى الميناء الأردني من منطلق أنّ المملكة الهاشمية كانت دائماً بعداً عربيّاً في غاية الأهمّيّة للعراق، خصوصاً إبّان حربه مع إيران في ثمانينيّات القرن الماضي.
لقاء النقب
في ضوء لقاء صحراء النقب في إسرائيل، وهو لقاء تميّز أيضاً بحضور المغرب، عبر وزير الخارجية ناصر بوريطة، إضافة إلى وزراء خارجية أميركا ومصر وإسرائيل ودولة الإمارات والبحرين، تبدو مصر مصرّة على استخدام وزنها كي لا تترك المنطقة لإيران فيما تتكفّل إسرائيل بما لديها من وسائل ضغط في واشنطن بمنع الاستسلام الأميركي الكامل للشروط الإيرانيّة.
تقف المنطقة العربيّة عند مفترق طرق. الجديد في الأمر أنّ مصر حاضرة أكثر من أيّ وقت مضى. يؤكّد حضور مصر وسياستها التي صارت خالية من أيّ عقد تجاه إسرائيل وغير إسرائيل أهمّيّة القرار العربي الذي اُتُّخذ في حزيران 2013. من يتذكّر وقتذاك الدور الطليعي الذي لعبته دولة الإمارات، بتفاهم مع السعوديّة، في دعم الثورة الشعبيّة المدعومة من الجيش بغية التخلّص من حكم الإخوان المسلمين الذي دام ما يزيد على سنة في ظلّ رئيس كان اسمه محمّد مرسي.
إقرأ أيضاً: مصر والعروبة العميقة (3/3): تحتمس الثالث.. وراية العرب
أنقذ القرار العربي المتّخذ، وقتذاك، مصر، ومهّد الطريق كي تلعب في السنة 2022 الدور المطلوب منها… دور إعادة التوازن والأمل إلى المنطقة. مصر حاضرة أكثر من أيّ وقت من خلال سياسة لا تتّسم بالواقعية فحسب، بل بنشر ثقافة الاعتدال أيضاً في منطقة باتت، بسبب إيران، “ساحة” لميليشيات مذهبيّة لا همّ لها سوى إثارة الغرائز المذهبيّة وتدمير كلّ ما هو عربي في كلّ دولة ومدينة من المحيط إلى الخليج…