مشروع قانون “الكابيتال كونترول” الذي أرسلته الحكومة إلى المجلس النيابي من الباب الخلفيّ، ليس إلا وصفة ذهبية لدفع الناس نحو السوق السوداء للعملة الأجنبية.
لقانون “الكابيتال كونترول” هدفان من حيث المبدأ:
– أوّلهما: حماية الحساب الجاري من تسرّب العملات الأجنبية خلال الفترة الحرجة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي المفترض.
– وثانيهما: تحقيق مبدأ العدالة بين المودعين، بحيث لا تذهب السيولة القليلة الباقية في البنوك المتعثّرة إلى القلّة المحظيّة.
مشروع قانون “الكابيتال كونترول” الذي أرسلته الحكومة إلى المجلس النيابي من الباب الخلفيّ، ليس إلا وصفة ذهبية لدفع الناس نحو السوق السوداء للعملة الأجنبية
فَقَد الهدف الثاني الكثير من جدواه، لأنّ أصحاب الحظوة تمكّنوا بالفعل من إخراج أموالهم على مدى العامين الماضيين، وقد تمّ استخدام العملات الأجنبية المتبقّية في احتياطات مصرف لبنان لهذه الغاية، من خلال قروض منحها البنك المركزي للبنوك، حتّى لم يتبقَّ منها شيء يكفي لتمويل تهريب الأموال. وهذا هو السبب الأكبر لانخفاض احتياطات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية من 31 مليار دولار في بداية الأزمة إلى أقلّ من 12 مليار دولار حاليّاً.
أمّا الهدف الأوّل، فالمعنيّ الأوّل به هو صندوق النقد الدولي، باعتبار أنّه لا يمكن للصندوق أن يمنح تمويلاً ميسّراً للبنان لسدّ الفجوة في الحساب الجاري ثمّ يجد الأموال تتسرّب إلى الخارج بحظوة القادرين. لكن لا معنى لهذا الهدف إذا لم تكن ثمّة خطة على الطاولة لحلّ مشكلة الحساب الجاري من أساسها.
مشكلة مشروع قانون “الكابيتال كونترول” الذي سقط في المجلس النيابي قبل أن يصل إلى الهيئة العامة، تبدأ من الأهداف. فهو يشير في مقدّمته إلى أنّ الهدف منه “احتواء حركة التهافت للتخلّص من العملة الوطنية والأصول المحليّة، من خلال الحدّ من التضخّم والحدّ من ردّة الفعل المفرطة للمستثمرين في بيع الأصول اللبنانية”. ثمّ يحدّد هدفين أساسيّين هما “الاستقرار المالي” و”قدرة المصارف على الاستمرار”. ومن أجل ذلك يركّز مشروع القانون على “إدخال ضوابط على التحاويل إلى العملات الأجنبية”.
وهو يربط ذلك بأربعة أهداف:
– منع المزيد من تدهور سعر الصرف.
– حماية احتياطي البنك المركزي بالعملات الأجنبية.
– استعادة السيولة في القطاع المصرفي.
– حماية المودعين.
يتّضح من ذلك أنّ لدى الحكومة توجّهاً أساسيّاً لفرض قيود غير مسبوقة في سوق القطع. فالحكومة تريد أن تقيّد شراء الدولار ونقله عبر الحدود، وتريد لسعر منصة “صيرفة” أن يكون ملزماً في كلّ عمليّات بيع وشراء العملات.
سوق القطع، على علّاته، هو المتنفّس الأخير للمواطنين للحفاظ على القدرة الشرائية والتحوّط من التضخّم وانهيار سعر صرف العملة الوطنية. ولا يقلّل من ذلك كثرة المضاربين ومهرّبي العملة. ولذلك لا يترك المواطن في ممارسته اليومية بين يديه من النقد اللبناني إلا ما يحتاج إليه في المدى القصير، بينما يحتفظ بكلّ ما يزيد على حاجته من النقد بالدولار. وتغيير هذه المعادلة غير ممكن ما لم يتوافر حدّ أدنى من الثقة بالمسار المستقبلي لسعر الصرف.
إشعال السوق السوداء
ما تطرحه الحكومة منطق معكوس، فبدلاً من اتّخاذ إجراءات لدعم الثقة بالليرة تبادر إلى تشريع يمنع الناس من بيعها، وتلك هي الوصفة المثالية لإشعال السوق السوداء. وبدلاً من أن تتّخذ إجراءات لمعالجة عجز الحساب الجاري وحماية احتياطي البنك المركزي بالعملات الأجنبية، تمنع الناس من بيع الليرة، وبدلاً من أن تصلح القطاع المصرفي، تمنع المودعين من سحب أموالهم.
مثل هذه القيود يمكن أن تكون معقولة لو أنّها كانت لفترة محدودة جدّاً، ومترافقة مع برنامج سريع للتعافي المالي وإعادة هيكلة القطاع المصرفي والبنك المركزي وإصلاح الماليّة العامّة. وهذا بالضبط ما يريده صندوق النقد الدولي.
أمّا ما هو مطروح فلا يزيد المشكلة إلا تعقيداً. إذ ليس هناك من يضمن الانتقال من تشريع “الكابيتال كونترول” بهذه القيود المجحفة إلى الخطوات التالية، خصوصاً أنّ الأزمة مستمرّة منذ ثلاثين شهراً، وما من ضمان للتوصّل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي أو إقرار خطة التعافي قبل الانتخابات النيابية.
إقرأ أيضاً: الحلّ ينتظر رحيل عون وسلامة: الدولار الرسمي 20 ألفاً؟
الخطورة في التوجّه الحكومي أنّه يحوّل “الكابيتال كونترول” من أداة مرحليّة لإنجاح خطّة الإنقاذ المالي إلى هدف بحدّ ذاته وبأفق زمني يمتدّ حتى خمس سنوات. ومعنى ذلك أنّ القيود المقترحة على التحويل إلى الخارج، وعلى التحاويل إلى العملات الأجنبية، باتت هي الحلّ الحكومي لمشكلة التضخّم ومشكلة انهيار سعر الصرف. وذاك حلٌّ لا يمكن أن ينجح، فضلاً عن أنّه مجحف ومنعدم التوازن. ناهيك عن الشكوك في أنّ وراء المسارعة إلى تشريعه رغبة من البنوك بغسل يديها من خطايا تهريب الأموال، ومواجهة عواقب الدعاوى القضائية التي تواجهها في الخارج.
بعدما تأخّر “الكابيتال كونترول” ثلاثين شهراً لم يعُد من الأخلاقي تشريعه إلا ضمن الحزمة الإصلاحية التي يريدها صندوق النقد.