توافقٌ مفاجئ حصل في مسقط أجاز التوصّل مع جماعة الحوثي إلى هدنة لمدّة شهرين في اليمن.
كان التحالف العربي قد أعلن قبل ذلك وقفاً لإطلاق النار لمناسبة شهر رمضان وبما يتناسب أيضاً مع رعاية مجلس التعاون الخليجي للمشاورات اليمنية-اليمنية التي انطلقت الأربعاء الماضي في الرياض. في الأمر انقلاب ينزع نحو السلم بعد أشهر من التصعيد والعنف على الجبهات في الداخل وقصف أهداف في السعودية والإمارات بصواريخ حوثية.
لا ينجو هذا التطوّر من عوامل خارجية تتعلّق بمزاج دولي مرتبط بأولويّات العواصم الكبرى الخاصّة بالحرب في أوكرانيا. تتعلّق العوامل أيضاً بالتطوّرات الغامضة لمفاوضات فيينا حول البرنامج النووي الإيراني، وبمقاربة خليجية لدفع اليمنيّين إلى الاهتداء إلى تسوية يمنية يمنية تحظى بحواضن إقليمية ودولية داعمة.
بات “الحلّ السياسي” دستور الجميع في اليمن والعنوان العريض للدول المنخرطة في الصراع والدول القريبة والبعيدة المعنيّة بالشأن اليمني
لا يمكن للعامل الخارجي وحده أن يدفع باتجاه عملية سياسية وميدانية جريئة لمعالجة الوجع اليمني بدون أن يكون أطراف الصراع قد باتوا، موضوعيّاً، جاهزين للاستجابة لحسابات الخارج والانصياع لأجندات التسوية والتفاهم. الواضح أنّ جماعة الحوثي، التي عرضت وقبلت وقف إطلاق النار وفرض هدنة إنسانية لانتشال المنكوبين من مأساتهم، تملك معطيات وتعاني إجهاداً يدفعها إلى الترحيب بمبادرة أممية قام بها المبعوث الأممي إلى اليمن هانس غرندبرغ لم تقبل مثيلاتها قبل أشهر وقبل سنوات.
حلول المنهكين
بات “الحلّ السياسي” دستور الجميع في اليمن والعنوان العريض للدول المنخرطة في الصراع والدول القريبة والبعيدة المعنيّة بالشأن اليمني. والأرجح أنّ دعاة “الحلّ العسكري” لدى كلّ الأطراف قد اقتنعوا باستحالة الأمر بعد سبع سنوات على الحرب، وهو أمر ظلّت تيارات داخل الشرعية كما لدى جماعة الحوثي تعتبره السبيل الوحيد لحسم الصراع في هذا البلد.
ويظهر من اندفاع واشنطن ولندن وباريس وغيرها والعواصم العربية والإقليمية إلى الترحيب بهدنة اليمن أنّ العالم أيضاً قد تعب من حرب لن تنتهي إلا بقرار أطرافها المباشرين وغير المباشرين. ويظهر من دعم السعودية ودول الخليج وإيران لهذه الهدنة أنّ ظروفاً سياسية جديدة قد نشأت لم تكن ناضجة قبل ذلك لإسقاط الورقة اليمنية من حسابات الصراع الجاري بين طهران وعواصم المنطقة.
على الرغم من خطاب إيران السابق الزاعم بأنّ الأزمة اليمنية بيتيّة داخلية مفتاح حلّها بيد اليمنيين فقط، فإنّ أطراف التحالف العربي لدعم الشرعية والأمم المتحدة والمبعوثين الدوليين يدركون زيف هذا الادّعاء، ويعرفون انخراط إيران في دعم الحوثيين، ويملكون معطيات عن مدى نفوذ طهران لدى تلك الجماعة ومستوى ما تقدّمه لها في السلاح والتدريب والمال والمدد اللوجيستي، خصوصاً لجهة تزويدها بأسلحة متطوّرة، ولا سيّما المسيّرات والصواريخ الباليستية.
اليأس من سقوط مأرب
لكنّ تحوّلات عسكرية حصلت في الأشهر الأخيرة أضعفت الابتزاز العسكري الذي كان يعوّل عليه الحوثيون من خلال السعي اليائس إلى إسقاط محافظة مأرب والسيطرة على شبوة والجوار. والواضح أنّ ما لحق بالجماعة من هزائم وخسائر دفعها إلى القبول بالهدنة بوحي كامل من طهران، لكن بدون المشاركة في مشاورات الرياض، أي بتجنّب نقاش الحلّ السياسي. وعلى هذا فإنّ لطهران أسباباً جديدة سهّلت في العاصمة العُمانية ما كان وفد الحوثي هناك قد رفضه مراراً وتكراراً “بانتظار سقوط مأرب” وتبدّل قواعد اللعبة الإيرانية الجارية مع مجموعة دول الـ 4+1، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، في العاصمة النمساوية.
أتت مبادرة الهدنة لتلاقي مواقيت ترتبط بالجلبة في واشنطن وطهران بشأن قرب إعلان الاتفاق المتوخّى في فيينا. أتت أيضاً لتواكب الجدل حول احتمال موافقة واشنطن على رفع الحرس الثوري الإيراني عن لوائح الإرهاب الأميركية مع ما يحيط الأمر من صخب في واشنطن داخل الكونغرس الأميركي قبل أشهر من الانتخابات النصفية، وما يواكب هذا الاحتمال من توتّر شديد عبّرت عنه قمم شرم الشيخ والعقبة والنقب في الأيام الأخيرة.
قد لا يكون مستبعداً أن يكون الحرس الثوري يخاطب الولايات المتحدة والمجتمعَيْن الدولي والعربي من خلال إثبات قدراته على الإمساك بمفاتيح السلم والحرب لدى امتداداته في اليمن، كما لدى امتداداته، للمناسبة، لدى سوريا ولبنان والعراق. ففيما تشيع الأوساط الأميركية بأنّ قرار إسقاط الصفة الإرهابية عن الحرس الثوري هو أمر لم يقرّره الرئيس جو بايدن، فإنّ للتطوّر اليمني أهدافاً هدفها التأثير على خطط البيت الأبيض المنتظرة.
تجاوز “الحرس الثوري”
حديث وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان عن أنّ ضباط الحرس الثوري عرضوا ألا يكون مطلب إخراج “الحرس” من لوائح الإرهاب عائقاً يضرّ بمصالح إيران، يلمّح لواشنطن والرأي العام الدولي بإمكانية إسقاط هذا الشرط وتجاوزه. وعلى الرغم من أنّ أوساطاً داخل الحرس الثوري هاجمت الوزير الإيراني، إلا أنّ الأمر كشف عن مرونة تبديها طهران للإفراج عن الاتفاق في فيينا، ومثلها مرونة طهران في اليمن التي ترمي لا شكّ إلى تسهيل فكفكة عقد من شأنها الإفراج عن الاتفاق العتيد.
إقرأ أيضاً: قمم العرب وصواريخ إيران: النفط.. قبل العسكر
يبقى أنّ واشنطن وطهران تتقاسمان الحرج في إخراج اتفاقهما في فيينا في الداخل والخارج. لا خطط أميركية لإعادة الحوثيين إلى لوائح الإرهاب الأميركية. فقط المبعوث الأميركي إلى اليمن تيم لندركينغ يمنّ على المنطقة بالإقرار بأنّ “الدور الإيراني سلبي في اليمن”. وليس مستبعداً أن يكون تسهيل طهران لهدنة اليمن هو تكتيكي يلاقي سعي واشنطن إلى إظهار الدعم للرياض ودول الخليج، ومحاولة من قبل الطرفين لإقناع المنطقة بفوائد التفاهمات في فيينا لأمن اليمن والسلام في الخليج.
* كاتب لبناني مقيم في لندن