هو حوار بيين القمم والصواريخ، لغته الأصلية هي النفط، ولهجاته تتراوح بين العربي والإسرائيلي والإيراني، وخلاصته مؤجّلة إلى حين توقيع الاتفاق النووي، أو الانفضاض من حوله إلى السيرة السابقة على ليالي فيينّا، المتأرجحة بين الأنس والعنف.
فحين تسارعت القمم، زاد التوتّر الإيراني، وظهرت لغة العنف المقنّن والمحدّد:
1- قمة شرم الشيخ في 22 آذار: جمعت رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت ووليّ عهد أبو ظبي الشّيخ محمّد بن زايد في ضيافة الرّئيس المصريّ عبد الفتّاح السّيسي، الذي جلس بينهما في صورة بدت معبّرة عن عودة مصر لتعلب دوراً محورياً بين الخليج والمشرق العربي وإسرائيل.
2- قمة العقبة في 25 آذار: استضاف الملك الأردني عبد الله الثاني في العقبة كلاً من الرئيس السّيسي، والشّيخ بن زايد (من قمة شرم الشيخ)، وأضيف إليهم رئيس الوزراء العراقيّ مصطفى الكاظمي، ووزير الدّولة السّعوديّ الأمير تركي بن محمد بن فهد بن عبد العزيز.
بحسب مصدر مسؤول في وزارة الخارجيّة الأميركيّة لـ”أساس” فإنّ المُجتمعين أبلغوا وزير الخارجيّة الأميركيّ أنتوني بلينكن أنّهم لن يقفوا مُتفرّجين فيما إيران تحصد ملياراتها المُجمّدة وتقطف ثمار أسواق الطّاقة
3- قمة النقب في 27 و28 آذار: جمعت وزير الخارجيّة المصري سامح شكري، مع وزراء خارجية الولايات المتحدة الأميركية ودولة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل والمغرب والبحرين. وبحسب مصدر مسؤول في وزارة الخارجيّة الأميركيّة لـ”أساس” فإنّ المُجتمعين أبلغوا وزير الخارجيّة الأميركيّ أنتوني بلينكن أنّهم لن يقفوا مُتفرّجين فيما إيران تحصد ملياراتها المُجمّدة وتقطف ثمار أسواق الطّاقة. إلّا أنّ بلينكن حاول، بحسب المصدر، أن يطمئن المُجتمعين أنّ واشنطن تأخذ مخاوفهم بعين الاعتبار، وأنّها لا تُعارض أيّ حلفٍ أو تكتّلٍ قد ينشأ لإرساء التّوازن مع إيران في المنطقة.
حضور مصر والإمارات
الجامع بين القمم الثلاثة هو الحضور المصري والإماراتي. كما لو أنّها رسالة من القاهرة إلى طهران فحواها أنّها ستستخدم وزنها وثقلها السّياسيّين والمعنويّين كي لا تكون المنطقة ساحة مفتوحة لإيران. وهذا ليس تفصيلاً، إذ إنّها المرّة الأولى التي تقف مصر بهذا الوضوح الذي لا يقبل الشّك في وجه إيران. والمشاركة الإماراتية تحمل في طياتها رسالة خليجية بأنّ الخليج ومصر “على قلب واحد” في هذا الملفّ.
بعد قمة العقبة بساعات، قصفت إيران، عبر الحوثيين، مدينة جدّة السعودية. يمكن القول إنّه كان ردّاً على مشاركة السعودية في “عاصفة القمم” التي جمعت خصوم إيران، على اختلافاتهم وخصوماتهم، بين موقّعي السلام مع إسرائيل (مصر والأردن) وبعيدين عنها (السعودية والعراق)، ومطبّعين معها (الإمارات والمغرب والبحرين).
وكانت الرسالة واضحة إلى إدارة بايدن مُفادها أنّ دول الخليج العربيّ لن تتهاون في سوق النّفط. لذا لم تتحمّل إيران، وربّما واشنطن أيضاً، مشهد العقبة، فجاء استهداف منشأة آرامكو في جدّة، في اليوم نفسه، كردّ إيرانيّ على الرّسالة “النّفطيّة” العربية.
ماذا عن السياق الإقليمي والدولي؟
الحاضران الأبرزان في القمم السّياسيّة والصّواريخ الباليستيّة الإيرانية هُما الاتفاق النّوويّ وسوق الطّاقة بشقّيْه: النّفط والغاز.
فمنذ اللحظات الأولى لاندلاع الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة، عملَت المُحرّكات الدّبلوماسيّة الإيرانيّة لتسويق قطاع الطّاقة الإيرانيّ كبديلٍ رئيسي عن النّفطِ والغاز الرّوسيَّيْن. لكن لا يُمكِن أن تبلغ الدّبلوماسيّة الإيرانيّة مُرادها من دون رفع العقوبات الأميركيّة، وهذا بطبيعة الحال مُرتبطٌ بالعودة إلى الاتفاق النّوويّ.
في عاصمة القرار واشنطن، كانت الإدارة الدّيمقراطيّة تعملُ بشكلٍ جدّيّ على إتمام العودة إلى الاتفاق النّوويّ، ومعها عودة إيران إلى سوق الطّاقة العالميّ. ما كانت تعمل عليه واشنطن التي عرضَت رفع الحرس الثّوريّ عن قوائم الإرهاب لتسريع الاتفاق، كان يتحوّل إلى مصدر قلقٍ في تل أبيب وعواصم أخرى في المنطقة.
لم يترك العربُ ولا الإسرائيليّون قلقهم في سرّهم، إذ يعلمون جيّداً ماذا تعني عودة إيران إلى سوق الطّاقة الأوروبيّ، وإمساكها بورقة ضغطٍ جديدة تدرّ عليها مليارات الدولارات، إلى جانب الصّواريخ الباليستيّة والأذرع المُنتشرة على طول خارطة الشّرق الأوسط.
ضمانات موسكو
قبلها، في 5 آذار، كان بينيت قد زار بوتين في موسكو. هواجس بينيت معروفة، لكنّ القيصر الذي طالما وقف في صفّ إيران خلال المفاوضات النّوويّة منذ ما قبل 2015، انتقل إلى الضّفّة المُقابلة. لا يريد أن يخسر ورقة الطّاقة التي يُمسكُ عبرها بمصير أوروبا. وعليه حاولت روسيا عرقلة العودة إلى الاتفاق النّوويّ بمُطالبتها بضمانات أميركيّة مكتوبة تُقِرّ فيها واشنطن أنّ العقوبات المفروضة على روسيا لا تؤثّر على تعاملاتها مع إيران.
ظنّ القيصر أنّ واشنطن لن تُعطيه هذه الضّمانات في سياق الضغط الأقصى عليه. لكنّها أرسلت موافقتها فوراً. فأصبح واضحاً في تل أبيب أنّ إدارة الرّئيس جو بايدن على عجلة من أمرها لعودة الاتفاق النّوويّ أكثر من مجلس الأمن القوميّ في إيران.
وهنا بدأ حراك بينيت يتوضّح أكثر في الصورة الإقليمية الخائفة.
يُؤكّد لـ”أساس” مسؤول عراقي، أنّ إقليم كردستان يعمل بشكلٍ جدّيّ على ضخّ الغاز الطّبيعيّ إلى تركيا ومنها إلى أوروبا التي تتّجه نحو تقليل الاعتماد على الغاز الرّوسيّ. وهنا يكمن بيت القصيد
فما علاقة النفط والغاز بالحراك الإسرائيلي العربي؟
بعد الكرملين، حطّ بينيت في شرم الشّيخ، لدى السيسي وبن زايد. لم يُفصَح الكثير عن هذه القمّة الثّلاثيّة، إلّا أنّ أبرز العناوين الحاضرة كانت إيران، والمسارعة الأميركيةّ إلى العودة إلى إحياء الاتفاق النووي، والهواجس الإسرائيلية الخليجية والمصريّة من هذه المسارعة.
بعد “شرم الشّيخ” كانت “العقبة”، بغياب إسرائيل، لتسهيل حضور العراق والسعودية: لو جمعت قمّة العقبة الأردن، ومصر، والعراق فقط، لكان الأمر سيُقرأ في سياق تحالف “الشام الجديد” الذي يجمع الدّول الثلاث. لكن ما زاد من طرح الأسئلة عن دلالات هذا الاجتماع كانت المشاركة السّعوديّة والإماراتية، خصوصاً بعد قمّة شرم الشيخ التي شارك فيها نفتالي بينيت.
بحثت قمّة العقبة خطّ أنابيب البصرة (جنوب العراق) – ميناء العقبة، الذي ينقل النّفط العراقيّ إلى الميناء الأردنيّ، ومنه إلى الأسواق العالميّة. أحد أهداف إعادة الحياة إلى هذا المشروع هو التكفّل بحاجات السّوق ومحاولة قطع الطّريق أمام النّفط الإيرانيّ، إلى جانب المُحاولة الكرديّة بقيادة آل بارزاني لقطع الطّريق أمام الغاز الإيرانيّ.
صواريخ أربيل النفطية
في 13 آذار انطلقت 10 صواريخ باليستيّة من إقليم كرمنشاه الإيرانيّ لتستهدف “فيلّا” رجل الأعمال الكرديّ باز كريم البرزنجي في أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق.
لم تُكن الغارة الإسرائيليّة على سوريا هي سبب القصف الإيراني, إذ إنّ شقّه الأوّل الذي صارَ واضحاً هو الرّدّ على استهداف إسرائيل منشأة طائرات مُسيّرة في كرمنشاه الإيرانية. لكنّ للقصف أبعاداً أخرى تتعلّق بسوق الغاز الطّبيعيّ.
ما لم تنفِهِ إيران وأكّدته مصادر عراقيّة لوكالة “رويترز” هو أنّ القصف كان رسالةً موجّهة إلى خطّة جديدة لإقليم كردستان العراق ترتكز على تزويد تركيا وأوروبا بالغاز الطّبيعي بمساعدة إسرائيل.
بين أربيل وتركيا، يتّضح دور مالك “الفيلّا” المُستهدفة، فهو يمتلك الشّركة التي تصفّي نفط كركوك وتُصدّر منه إلى الخارج عبر ميناء “جيهان” التّركيّ.
يُؤكّد لـ”أساس” مسؤول عراقي، لم يشأ الكشف عن اسمه، أنّ إقليم كردستان يعمل بشكلٍ جدّيّ على ضخّ الغاز الطّبيعيّ إلى تركيا ومنها إلى أوروبا التي تتّجه نحو تقليل الاعتماد على الغاز الرّوسيّ. وهنا يكمن بيت القصيد.
الرّسالة الإيرانيّة واضحة إلى “الأسرة الحاكمة” في أربيل، آل بارزاني، الرّئيس الأسبق مسعود، ونجله رئيس الوزراء مسرور، وابن شقيقه رئيس الإقليم الحاليّ نيجيرفان: “لا تلعبوا بالغاز”.
إقرأ أيضاً: الشرق الأوسط الجديد: شرم الشيخ.. العقبة.. النقب
الخلاصة أنّ المخاوف من الاتفاق النووي في المنطقة لها رأس عسكري، حول أذرع إيران في الدول العربية وحول إسرائيل، وحول صواريخها الباليستية وجنون التوسّع والاعتداء. لكن لهذا الاتفاق، خصوصاً بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، أيدٍ وأرجلٍ نفطية واقتصادية، ستشكّل خطراً أكيداً على مشاريع الغاز وخطوط النفط العربية والإسرائيلية.
وهذا الملفّ سيبقى مفتوحاً، وباباً لتبادل الضربات، فوق الحزام وتحته، في الأسابيع والأشهر والسنوات المقبلة.