فاجأت أوكرانيا فلاديمير بوتين. أجبرته على تغيير استراتيجيّته واعتماد “الخطة ب” بعدما اعتقد أنّ مجرّد دخول الجيش الروسي الأراضي الأوكرانيّة سيعني استسلام البلد الجار ورضوخه من دون شروط.
يُظهر الأوكرانيون في كلّ يوم قدرة على الصمود والمقاومة. يقاوم الأوكرانيون في ظروف أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها في غير مصلحتهم نظراً إلى أنّ الولايات المتحدة لا يمكنها، لأسباب مرتبطة بالسلاح النووي الروسي، مثلها مثل أوروبا، الإقدام على أيّ مغامرة تصبّ في حماية الأراضي الأوكرانيّة. لا يستطيع الأميركيون أو الأوروبيون الدخول في مواجهة مباشرة مع الجيش الروسي. عليهم خوض المعركة… حتّى آخر أوكراني.
تقضي “الخطة ب”، أي الخطة البديلة لدى الرئيس الروسي، بتقسيم أوكرانيا وضمّ شبه جزيرة القرم نهائيّاً، إضافة إلى إقامة جمهوريّتين مستقلّتين فيها. يبدو أنّ تحقيق هذا الهدف تحت عنوان عريض هو “الحياد الأوكراني” وتوافر ضمانات تحول دون تفكير أوكرانيا، حتّى، بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، سيستغرق وقتاً طويلاً. هذا ما يفسّر لجوء الجيش الروسي إلى استقدام مرتزقة من غير الروس يستعين بهم في معاركه المقبلة. يوفّر استقدام المرتزقة، من شيشان وسوريين وما شابه، دليلاً على أنّ الحرب ستكون طويلة.
لم يعد سرّاً أنّ فلاديمير لا يستطيع التراجع في أوكرانيا بعدما ربط مستقبله السياسي بها. سيتوجّب عليه تحقيق أهداف محدّدة يستطيع تسويقها في داخل روسيا نفسها كي يبقى رئيساً مدى الحياة كما يطمح
في غياب أعجوبة، ستكون الحرب طويلة على الرغم من كلّ ما يُقال عن العديد الكبير للجيش الروسي، وعلى الرغم من كلّ ما يمتلكه من أسلحة دمار جرّبها في الحرب التي شنّتها إيران ونظام بشّار الأسد على الشعب السوري الأعزل.
لم يعد سرّاً أنّ فلاديمير لا يستطيع التراجع في أوكرانيا بعدما ربط مستقبله السياسي بها. سيتوجّب عليه تحقيق أهداف محدّدة يستطيع تسويقها في داخل روسيا نفسها كي يبقى رئيساً مدى الحياة كما يطمح. لهذا السبب، ليس مستبعداً لجوء الرئيس الروسي إلى مزيد من التدمير للمدن الأوكرانيّة وتهجير أهلها قبل الإعلان أنّه حقّق الأهداف التي جعلته يغامر بشنّ حرب لا تزال تلقى دعماً شعبياً روسيّاً.
لا يمكن بأيّ شكل الاستخفاف بالشعور الوطني الروسي وحماسة المواطن العادي لتحويل أوكرانيا إلى مجرّد جرم يدور في الفلك الروسي. في هذه الحماسة الوطنيّة والرغبة الدائمة في استعادة أمجاد روسيا، تكمن قوّة بوتين الذي أطلق شعارات يعشقها المواطن الروسي العاديّ. يترحّم هذا المواطن، مثله مثل رئيسه، على الاتحاد السوفياتي. تتحكّم هذه العقدة ببوتين الذي يرفض الاعتراف بأنّ روسيا لم تستطع بناء اقتصاد يسمح لها بأن تكون قوّة عظمى. كذلك يرفض الاعتراف بأنّ الفشل الاقتصادي كان وراء انهيار الاتحاد السوفياتي…
إلى متى سيستمرّ الدعم الداخلي الروسي لبوتين. هذا السؤال سيطرح نفسه في مرحلة معيّنة، علماً أنّ ثمّة نقطة قوّة أخرى تخدم الرئيس الروسي. تتمثّل هذه القوّة في أنّ الخسائر البشريّة لا تؤثّر فيه، أقلّه في المدى المنظور.
لكنّ الأمر الذي لا بدّ من أخذه في الاعتبار في حال طالت الحرب الأوكرانيّة طويلاً يتمثّل في الأخطاء التي ارتكبها بوتين والتي ستؤثّر على الموقع العالمي لروسيا في المدى الطويل. كلّما طالت الحرب، زاد اعتماد روسيا على الصين. ليس بعيداً اليوم الذي سيتبيّن فيه أنّ روسيا فقدت القدرة على التنافس مع الصين التي لديها مطامع ذات طابع اقتصادي في مناطق تقع في محاذاة الأراضي الروسية، خصوصاً في سيبيريا التي تحوي أرضها على ثروات طبيعيّة كبيرة.
إضافة إلى ذلك، ستجد روسيا نفسها مضطرّة إلى الاتّكال أكثر على إيران في سوريا وأماكن أخرى. في أيلول 2015، استنجدت إيران بروسيا كي تتمكّن من إبقاء بشّار الأسد في دمشق. ذهب قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري”، الذي اغتاله الأميركيون في الثالث من كانون الثاني 2020 بُعَيد مغادرته مطار بغداد، بنفسه إلى موسكو. قدّم سليماني كلّ الضمانات المطلوبة روسيّاً كي يوافق بوتين على إرسال قاذفات إلى سوريا، إلى قاعدة حميميم قرب اللاذقيّة تحديداً، للحؤول دون مزيد من تقدّم الثوار في مناطق الساحل السوري القريبة من جبال العلويين. كان الدخول العسكري الروسي إلى سوريا بطلب إيراني وبشروط حدّدتها موسكو التي تمتلك علاقة خاصة مع إسرائيل. مثل هذه العلاقة تفرض على إيران تفهّم الموقف الروسي والتنسيق القائم بين موسكو والقيادة العسكريّة الإسرائيليّة.
ما يحصل حالياً هو تراجع القوات الروسية في مناطق سورية. من بين هذه المناطق منطقة مهين شرق حمص حيث مستودعات أسلحة كبيرة للجيش السوري كان يشرف عليها الروس. انسحبت الشرطة العسكرية الروسية من مهين إلى تدمر، وتركت مستودعات الأسلحة للإيرانيين وميليشياتهم ولقوات تابعة للنظام السوري تشعر بأنّها في حال ضياع.
خلاصة الأمر أنّ حرب أوكرانيا التي كان فلاديمير بوتين يعتقد أنّه سيحقّق فيها انتصاراً خاطفاً بمجرّد تحريك جيشه داخل الأراضي التابعة للبلد الجار، لم تكن نزهة. ستكون هناك تبعات ستترتّب على هذه الحرب. لا تتعلّق هذه التبعات بالجانب الصيني الذي يزداد نفوذه العالمي على حساب روسيا، ولا بالنقاط التي سجّلتها إيران في سوريا على حساب روسيا فحسب، بل لا بدّ أيضاً من التفكير في ما ستكون عليه العلاقات الروسيّة – الأوروبيّة مستقبلاً.
بعد حرب أوكرانيا، لن توجد دولة أوروبيّة واحدة تثق بالرئيس الروسي. الأكيد أنّ كلّ دولة أوروبيّة ستشعر بأنّ عليها إعادة النظر في العلاقات مع موسكو. بكلام أوضح، ستبحث كلّ الدول الأوروبيّة، في مقدّمها ألمانيا، عن طريقة تجعلها في منأى عن الاعتماد على الغاز الروسي.
إقرأ أيضاً: أوكرانيا غيّرت العالم… هل تتغيّر أميركا؟
أخطأ فلاديمير بوتين في شنّه حرباً على أوكرانيا. مضى شهر ونصف شهر على بدء الحملة العسكريّة الروسيّة. كلّ ما يمكن قوله أنّ الحرب لا تزال في بدايتها، وأنّ خطورة الرئيس الروسي تكمن في السلاح النووي الذي يمتلكه بلده الباحث عن موقع مميّز في العالم بفضل هذا السلاح… وليس عن طريق بناء اقتصاد منتج يساهم في تحسين العلاقة بين روسيا وأوروبا وتحقيق الاندماج بينهما. كان لدى بوتين خيار الاندماج مع أوروبا بدل أن تكون روسيا معزولة وتحت رحمة الصين أكثر من أيّ وقت!