مصر والعروبة العميقة (3/3): تحتمس الثالث.. وراية العرب

مدة القراءة 10 د

قبل 3400 سنة، أي في العام 1400 قبل الميلاد، اكتشف الفرعون تحوتموس الثالث أنّ الأمن القومي المصري يبدأ في بلاد الشام، ولا ينتهي في السودان.

بحسب المؤرّخين، أنشأ تحوتموس الثالث أسطولاً بحريّاً بسط نفوذ مصر على قبرص وسواحل لبنان وفلسطين، لتمتدّ إمبراطوريّته من أعالي الفرات شمالاً، حتّى أواخر نهر النيل جنوباً. وعرف أنّ الحفاظ على ملكه وعرشه يستدعي منه أن يخرج من “مصر” التي يحكمها، كي يحارب في بلاد الشام، أو سوريا ولبنان وفلسطين التي نعرفها اليوم.

كان أوّل حاكم مصريّ في التاريخ يلمس عسكريّاً أنّ أمن مصر القوميّ يستدعي أن يكون له نفوذ مباشر في سواحل بلاد الشام، ولبنان تحديداً. بعده بـ3400 عام قال المؤرّخ المصري الشهير جمال حمدان، جملته الشهيرة: “ما خاضت مصر حرباً خارج أرضها إلّا وربحتها، وما خاضت حرباً على أرضها إلّا وخسرتها”.

منذ 2015، اعتمد الرئيس السيسي استراتيجية تحوتموس الثالث، باعتباره دستوراً مصرياً، وبدأ بتنفيذ رؤيته لحماية الأمن القومي المصري، عبر تطوير أدوار مصر الخارجية، في محيطها الحيوي الجيوسياسي

من هنا، من تحوتموس الثالث، قبل جمال عبد الناصر بـ3350 عاماً، تعرف مصر أنّها يجب أن تكون حاضرة هنا، في بيروت، كي تحافظ على أمن ميدان التحرير في القاهرة. ولتنفيذ هذه الاستراتيجية لا بدّ من أدوار متقدّمة لمصر في الإقليم.

العروبة الفرعونيّة

جمال حمدان نفسه يقول في الفصل الأخير من الجزء الرابع من كتاب “شخصيّة مصر”: “عربية هي بالأب، وفرعونيّة بالجدّ، وبين الأب والجدّ وشائج قربى أكثر ممّا يدركه قصّار النظر”. ومن هنا يمكن الدخول إلى العقل الجديد في الطور الجديد من شخصية مصر: “العروبة العميقة”، عروبة “التربيط الاجتماعي”، بمشاريع استثمارية، وبوحدة التاريخ الفني والموسيقي والأدبي، وبالتزاوج الاستثماري. وبالتزاوج مع مصر الفرعونية، يمكن اعتبارها مرحلة “العروبة الفرعونية”.

لهذا، ستجد الإنتلجنسيا المصرية في العامين الأخيرين وقد بدأ قاموسها وحقلها المعجمي يمتلىء بالمصطلحات والتشابيه “الفرعونية”، كما لو أنّ المصريين، من “الدولة العميقة” وصولاً إلى الكتّاب والصحافيين وعامّة الشعب، قد اكتشفوا أنّهم فراعنة قبل أن يكونوا عرباً، وأنّ عروبتهم هي الحفيد الشرعي لفرعونيّتهم.

ليس مبالغةً القول هنا إنّ صراع الهويّات التاريخي في المنطقة حتّم على المصريين أن يُشهروا سيف هويّتهم الفرعونية، أمام أحلام رجب طيب إردوغان “العثمانية”، وأحلام إسرائيل “الأورشليميّة”، وأحلام الإيرانيين “الفارسية”، وبالطبع أحلام فلاديمير بوتين الإمبراطورية…

الهوس بالتاريخ

في خضمّ الجنون بالتاريخ، والهوس السياسي والعسكري باستلهام المراحل التاريخية التي كان لهذا الشعب أو ذاك قيادة سياسية وعسكرية “إمبراطوريّة”، قرّرت مصر أنّه حان الوقت كي تذكِّر العالم بتاريخها.

سحب المصريون هويّتهم التاريخية، وقالوا: “عمرنا 5 آلاف سنة”. وكان الإعلان الضخم لهذه العودة إلى التاريخ، هو “موكب المومياوات الملكية المصرية”، الذي أبهر العالم في نقل مباشر، جرى خلاله نقل المومياوات من المتحف المصري في ميدان التحرير، بوسط العاصمة المصرية القاهرة، إلى المتحف القومي للحضارة المصرية بالفسطاط جنوب العاصمة، حيث استقرّت المومياوات الملكية في متحفها الجديد.

فـ”الحكاية الفرعونية” سهلة التسويق، وشامخة، بين الأهرامات وأبي الهول، وبين أفلام هوليوود التي ما انفكّت تعلن انبهار الغرب بالحضارة الفرعونية، وريادتها في علوم كثيرة، ليس أقلّها الهندسة والإعجاز العلمي في بناء الأهرامات، وليس آخرها التحنيط وفنونه وأساطيره، وصولاً إلى إعادة تصوير الفراعنة ببرامج الذكاء الاصطناعي.

حين قرّر الخليجيون نفض أيديهم من لبنان، كان المصريون يحذّرون من ترك لبنان لقمة سائغة لطرفين معاديين للعرب والمنطقة وأنظمتها: التطرّف السنّيّ، والتطرّف الشيعي

زمن عبد الفتّاح السيسي

منذ 2015، اعتمد الرئيس السيسي استراتيجية تحوتموس الثالث، باعتباره دستوراً مصرياً، وبدأ بتنفيذ رؤيته لحماية الأمن القومي المصري، عبر تطوير أدوار مصر الخارجية، في محيطها الحيوي الجيوسياسي:

1- غزّة: من فلسطين بدأ في استعادة دور مصر الفاعل فيها، خصوصاً خلال جولة القتال الأخيرة، حين اتصل الرئيس الأميركي بالرئيس المصري، طالباً وساطته ومشورته.

2- ليبيا: التي كانت على وشك أن تقع كلّيّاً في قبضة الإسلام السياسي العسكري. وعلى بعد ألف كيلومتر من حدود مصر، رسم السيسي خطّاً أحمر في الرمال، وقال إنّ من يتجاوزه يكون بذلك كمن يعلن الحرب على مصر: “مدينة سرت وقاعدة الجفرة الجويّة في ليبيا خطّ أحمر لأمننا القوميّ”.

3- باب المندب: اعتبر السيسي في نيسان 2015 أنّ “تأمين الملاحة في باب المندب أولوية قصوى للأمن القومي المصري والعربي”.

4- السودان: أعلن السيسي العام الماضي أنّ “أمن واستقرار السودان، يُعد جزءاً لا يتجزأ من أمن مصر واستقرارها”. وذلك بعد الاختلال السياسي والعسكري، الذي دخلت مصر طرفاً أساسياً وفاعلاً في تهدئته بين الجيش والحكومة المدنية.

5- الخليج: نسجت مصر السيسي علاقاتٍ غير مسبوقة من التنسيق مع دول الخليج. وها هي مصر تتحضّر لتلعب دوراً أساسياً في ملف اليمن.

6- سوريا: لم تقطع مصر مع النظام السوري، حتّى حين طرد من الجامعة العربية.  وهي من أكثر المؤهّلين للعب دور وسطي بينه وبين بقية العالم.

7- إيران: حتى مع إيران، ثمة رأي فاعل يقول إنّ مصر ستستعيد علاقاتها بنظام الملالي، كجزء من صورة مصر الجديدة، التي لا خصوم لها، خارج خطوط أمنها القومي الحمراء.

8- إسرائيل: بعد اللقاء الثلاثي بين السيسي وولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد ورئيس وزراء إسرائيل نفتالي بينيت، أصبح واضحاً أنّ مصر بدأت عصراً جديداً، تكون فيه “محور” الحراك السياسي في المنطقة، خصوصاً أمام حلف العداء الشرق الأوسطي لسياسة إدارة جو بايدن، في مقابل سعي أميركا إلى حلف مع إيران على حساب دول المنطقة وشعوبها.

9- الأردن: وليس آخراً، حطّ الرئيس السيسي في الأردن يوم الجمعة الفائت، في اجتماع ضمّ رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، في ضيافة ملك الأردن عبد الله الثاني، بحضور وزير الدولة السعودي الأمير تركي بن محمد. وهو ما يمكن اعتباره “قمّة عربية مصغّرة” تجمع النواة العربية الصلبة في المنطقة. ومصر في قلب صناعتها.

10- لبنان: نصل إلى لبنان وسياسة العروبة الناعمة، التي هي جزء من أمن مصر القومي، في سياق خطة “حماية الدولة العربية الوطنية”.  

 

عودة السعودية إلى بيروت

يحدث كلّ هذا في ظل أخبار جديّة عن اقتراب عودة السفير السعودي في لبنان عن اعتكافه خارج لبنان، مصحوبةً بوساطة فرنسية مع المملكة العربية السعودية أفضت إلى مساعدات إنسانية ستتسلّمها جمعيات أهليّة، وليس مؤسسات الدولة، ومتزامنةً مع زيارات لمندوبين عن سمير جعجع ووليد جنبلاط لطلب المساعدة في ملفّين: المال، والصوت السنّيّ، من الشوف إلى بيروت وعكّار وزحلة والبقاع الغربي وراشيا وغيرها.

لكنّ الأكيد لمصر رأي آخر.

حين قرّر الخليجيون نفض أيديهم من لبنان، كان المصريون يحذّرون من ترك لبنان لقمة سائغة لطرفين معاديين للعرب والمنطقة وأنظمتها: التطرّف السنّيّ، والتطرّف الشيعي. وهما عدوّان لدودان للعروبة، بوصفها مرجعية قومية تجمع شعوب المنطقة من خارج الدين.

لم يستمع أحد للمصريين. وهم تفهّموا. يقول دبلوماسي مصريّ عتيق إنّ المملكة ترتّب أوراقها الداخلية، وتمرّ في المرحلة التي عبرتها مصر بين العامين 2014 و2017، قبل أن يقرّر الرئيس السيسي “الخروج من القلعة”. ويعدّد كميّة الملفّات الشائكة، من انتقال السلطة، إلى تغيير في بنية النظام، وصولاً إلى أنّ المملكة، وللمرّة الأولى منذ 180 عاماً، منذ انهيار الدولة السعودية الأولى، هي تحت مرمى نيران معادية داخل مدنها.

يصير الحديث عن لبنان ترفاً لا وقت له، حين تكون مدن المملكة تحت مرمى صواريخ إيران من جهة الحوثيين في اليمن. وبالتالي فإنّ السعودية لم “تترك لبنان”. باختصار فإنّ القيادة السياسية في المملكة لا وقت لها لملفّ لبنان. فكيف إذا كان لبنان شوكة في خاصرتها اليمنية، برجال وأموال وصواريخ وخبرات حزب الله، الذي يحكم لبنان وله الأكثرية النيابية ومجلس الوزراء والرؤساء الثلاثة؟

لا خلاف إذاً بين مصر والسعودية في لبنان، بل هو تنسيق في كلّ ملفّات المنطقة، وكلّ طرف يتفهّم وجهة نظر الطرف الآخر في ما يخصّ رؤيته لكيفية التعاطي مع لبنان.

مصر تقف سنداً للعروبة العميقة، بامتداد فرعوني لا ينتهي، وبوعي تاريخيّ كبير، مصحوب بعمل وجهد كبيرين في بناء نواة عربية صلبة، من لقاء شرم الشيخ الثلاثي إلى لقاء الأردن الخماسي

مَن أسقط الرايات؟

لا يلوم المصريون أحداً. من حقّ الإيرانيين والأتراك وغيرهم أن يلتقطوا الرايات التي أسقطها العرب على أرض لبنان. بالنسبة إليهم، لم يخُض أحد قتالاً لأخذ الرايات من أيدي العرب. جاء الأغراب والتقطوا راياتٍ رماها العرب. وفي السياسة، عليكَ أن تستعيد الراية، بدل أن تلعن مَن التقطها.

بالنسبة إلى المصريين، فإنّ استعادة الراية يكون بدعم الدولة العربية العميقة، بالعروبة والديمقراطية والحداثة.. ولأنّ العرب انكفأوا… جاء الآخرون.

تماماً كما يحاول العرب في سوريا والعراق. فها هم يحاولون استيعاب سوريا الأسد، باستقبال رئيسها المجرم بشّار الأسد. وفي العراق نجح العرب في خطف الأكثرية النيابية من أيدي الإيرانيين تحت حكم رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي.

في سوريا انهارت مؤسسات الدولة الوطنية انهياراً شديداً. وفي العراق، نتيجة خطأ الأميركيين في حلّ الجيش و”اجتثاث البعث” ومؤسسات الدولة، سقطت المؤسسات في أيدي الميليشيات، وهناك مرحلة صعبة جدّاً قبل استعادتها إلى حضن “الدولة الوطنية”.

يبدو لبنان، بالنسبة إلى المصريين، في أحسن حال مقارنةً بسوريا والعراق. فمؤسسات الدولة لا تزال “واقفة”. وعناصر الدولة أكثر حضوراً. لهذا تجد الدعم المصري للجيش والقوى الأمنيّة، باعتبارها الحاجز الأهمّ للدفاع عن الدولة ومؤسّساتها.

أيضاً فإنّ مصر أرسلت قبل أشهر 480 طناً من المساعدات، من ضمنها 260 طناً من الأدوية، وهي أكبر كميّة مساعدات دخلت لبنان في يوم واحد منذ تفجير مرفأ بيروت، وأكبر كميّة خرجت من مصر في يوم واحد. واللافت أنّ نصف هذه المساعدات يأتي من الدولة المصرية، لكنّ نصفها الآخر عبارة عن مساعدات من جمعيات وخيّرين مصريّين، أي من القطاع الخاصّ والمجتمع المصري. وهذا له دلالة كبيرة. فلبنان في ذاكرة المصريين لا يزال له مكانة خاصّة لا يمكن حذفها أو نسيانها بسهولة.

الولاءات الأوّليّة

تخشى مصر غياب الدولة الوطنية، لأنّ “خطر تفكّك مؤسّسة الدولة” يعني “الارتداد إلى كيانات بدائية تقوم على ولاءات قبلية و/أو مذهبية، وتنشغل بمعارك حمقاء لتسوية خلافاتها “الفقهيّة”، أو صراعات “تاريخية” على مراعي الإبل أو مساقط الأمطار”، بحسب مقال السفير المصري في لبنان ياسر علوي في صحيفة “الشروق” المصرية، بتاريخ 15 آذار 2009، وكان عنوانه: “أسطورة “مصر أوّلاً”: الدور الإقليمي ليس صدقة جارية”.

يختم علوي نصّه الاستراتيجي بالجملة التالية: “لو لم تكن “العروبة” موجودة، لتوجّب علينا، في مصر بالذات، اختراعها، ولو من قبيل الدفاع عن “مصر أوّلاً””.

إقرأ أيضاً: مصر والعروبة العميقة (2/3): تطرّف سنّة لبنان ليس قدَراً

عودة الناس إلى الولاءات البدائية تعني الارتداد إلى الإسلام السياسي، أي التطرّف الديني، الذي يؤدّي إلى الإرهاب والدم وتفكيك المجتمع المصري، كما حصل خلال العام اليتيم حين حكم “الإخوان المسلمون” مصر تحت رئاسة محمد مرسي، وتنامت المذابح بحقّ الأقباط والشيعة وغيرهم.

مصر تقف سنداً للعروبة العميقة، بامتداد فرعوني لا ينتهي، وبوعي تاريخيّ كبير، مصحوب بعمل وجهد كبيرين في بناء نواة عربية صلبة، من لقاء شرم الشيخ الثلاثي إلى لقاء الأردن الخماسي. كلّ هذا دفاعاً عن خطوط “العروبة العميقة”، من باب المندب إلى السودان، وليبيا والعراق، وصولاً إلى سوريا ولبنان.

مصر تحفر بالعمق العربي. والسنوات المقبلة ستكون مصرية العروبة العميقة، من لبنان، إلى كلّ أنحاء المنطقة.

مواضيع ذات صلة

برّي ينتظر جواب هوكستين خلال 48 ساعة

تحت وقع النيران المشتعلة أعرب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب موافقته على أن يستكمل الرئيس جو بايدن مسعاه للوصول إلى اتفاق وقف لإطلاق النار في…

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…