مصر والعروبة العميقة (2/3): تطرّف سنّة لبنان ليس قدَراً

مدة القراءة 11 د

في الحلقة الأولى من هذه السلسلة، كان حديثٌ عن “العروبة العميقة”، بوصفها محاولة لتربيط “ما تحت السياسي”، أي الاجتماعي، ضمن شبكات عميقة تستعصي على التقلّبات السياسية. تماماً كما كانت جامعة بيروت العربية ركناً عضويّاً من أركان الاجتماع اللبناني منذ تأسيسها في العام 1962.

يومها، نبتت على أطراف الجامعة بيوت الطلاب، وتورّمت من حولها التنظيمات الشعبية، الفلسطينية والقومية العربية والفدائية، تنهل من أعداد الطلاب و”وعيهم” العربي والثوري والفلسطيني. وساهمت الجامعة في بناء قلعة قومية عربية داخل الطريق الجديدة، سرعان من امتدّت جذورها إلى بقية أنحاء لبنان.

مصر في جعبتها “مفاجآت” بما يخصّ مشاريع مشابهة لفكرة تطوير مرفأ طرابلس، لكن لكلّ المناطق في لبنان

هذه التجربة حفرت عميقاً في الوعي السياسي المصري، وفي الوعي العروبي اللبناني. لهذا فإنّ المصريين يريدون تعميمها على بقية مناطق لبنان، دون حواجز طائفية أو مذهبية، تماماً كما هي العروبة، وكما هي “العروبة العميقة” تحديداً.

في 12 تشرين الأوّل الفائت، وقّع سفير مصر في لبنان ياسر علوي اتفاقية لتطوير مرفأ طرابلس، بتمويل قيمته 87 مليون دولار. مرّ الخبر مرور الكرام، لكنّه يقول الكثير. فهو جزء من استراتيجية ستنتشر على كامل مساحة الأراضي اللبنانية، من بيروت إلى عكّار والبقاع والجنوب وجبل لبنان.

لخبر طرابلس دلالتان:

الأولى أنّ الاتفاقية تأتي بعد 14 شهراً من تفجير مرفأ بيروت. وفي خضمّ حروب المرافىء السرّيّة، وتهافت الدول الكبرى على أن يكون لها مواطىء لأقدامها في كلّ بحر وميناء، من طريق الحرير وموانئها المستأجَرة والمشتراة من الدول، وصولاً إلى منافسة مرفأ حيفا و”تصفية” مرفأ بيروت وأحلام مرفأ طرابلس.

والثانية أنّ طرابلس هي العاصمة الثانية للبنان، والأقرب إلى سوريا، وهي مرشّحة لتكون مدينة أساسيّة في خطوط إمداد إعادة إعمار سوريا، في المدى المنظور. ومعروف أنّ النظام المصري لم يقطع مع النظام السوري، حتّى في أحلك الظروف، حين طُردت سوريا من الجامعة العربية. ويقول المصريون إنّ من العار أن تكون طرابلس أفقر مدينة على شواطىء البحر الأبيض المتوسّط. ولن يسمحوا بأن تستمرّ هذه الحالة.

أمّا بعد، فإنّ مصر في جعبتها “مفاجآت” بما يخصّ مشاريع مشابهة لفكرة تطوير مرفأ طرابلس، لكن لكلّ المناطق في لبنان، لا تبدأ في “تجهيز مشروع كبير في صور”، تلك المدينة السنّيّة – المسيحية، التي باتت أكثرية سكّانها من الشيعة. وهو سيكون المشروع العربي الأكبر في “الداخل الشيعي”. مشروع من أهدافه إعادة الربط مع الشيعة العرب، وتذكير الجميع بأنّ الشيعة هم عرب في الأساس، بعيداً من الخلافات السياسية والنكايات البيزنطية.

 

الاستثمار.. والفنون

ثمّ هناك تخطيط لمشروع كبير في البقاع، ومثله في عكّار، وآخر في جبل لبنان. وستكون هذه المشاريع عبارة عن خليط من المستثمرين اللبنانيين والمصريين، وستوفّر فرص عمل لمصريين ولبنانيين. وكلّ هذا ينتظر الانتهاء من موجات كورونا وإعادة فتح المؤسسات في البلدين.

لن تقف الورشة المصرية الجديدة في لبنان هنا. ستترافق مع استنهاض نوستالجي للذاكرة المصرية في لبنان. فجزء كبير من سكّان لبنان وأهله مصريّو الهوى، من الرواية والأدب، إلى السينما والمسرح، مروراً بالأغنية والفنون المختلفة.

سنسمع عن معرض أفلام مصرية قديمة، وعن معرض للكتب، وعن مؤتمرات وندوات فنيّة وثقافية، تعيد ربط المطبخ الثقافي والفنّي اللبناني بالمطابخ المصرية، ضمن الحداثة المشتركة، والذاكرة الواحدة.

يعرف المصريون أنّ لبنان كان أحد روّاد النهضة المصرية قبل 100 عام. والهجرة اللبنانية الكبيرة قبيل الحرب العالمية الأولى وخلالها وبعدها، كانت لمصر حصّة كبيرة منها، وحظّ أكبر. فاللبنانيون ساهموا في نهضة الصحافة المصرية، وفي النهضة الثقافية الكبيرة في الأعوام الخمسين الذهبية في مصر، بين 1920 و1970. إلى جانب أيادٍ وعقول عربية متعدّدة.

على سبيل المثال وليس الحصر، في الموسيقى كانت موسيقى حليم الرومي وفيلمون وهبي من أجمل ثمار التلاقي بين الموسيقى المصرية واللبنانية، ومن تلك الفترة الذهبية نتذكّر صباح ونور الهدى وفريد الأطرش وأسمهان. كانت شراكة لبنان ومصر رافعة حضارية للعرب كلّهم، قبل الانتكاسة الدينية وسلوك التاريخ مساراً معاكساً للحداثة في البلدين، من الحروب، أهلية وعسكرية، إلى الاستبداد وسقوط الفنّ والثقافة تحت سياط التجّار.

“الوعي المصري للبنان هو وعي تاريخي”. والنخبة المصرية لا تغادر التاريخ، ولا هو يغادرها. ولهذا سيكون لبنان قبلة استراتيجيّة لمصر، في الأشهر والسنوات المقبلة. وما الخمسون ألف لبناني الذين انتقلوا للإقامة والعمل في مصر، خلال عام واحد، إلا إشارة ساطعة إلى أنّ مصر ستستعيد روحها اللبنانية، ولبنان سيستعيد ظلال مصر.

 ماذا عن خطر التطرّف السنّي؟

تقدّر استطلاعات أوّليّة أنّ جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية قد تحصل على نائبين في بيروت، وربّما نائب ثالث في طرابلس، مع استبعاد حصولها على نائب في إقليم الخرّوب بالشوف. وأنّ “الجماعة الإسلامية”، الذراع اللبنانية لتنظيم “الإخوان المسلمين”، قد تحصّل مقعداً أو أكثر، في بيروت وطرابلس والإقليم، وربّما صيدا.

أفضل التقديرات تعطي إذاً “الإسلاميين” السُنّة بين 4 و 5 نواب من أصل 27 نائباً سنّيّاً. ما يقلّ عن 20% من عدد المقاعد السنّيّة. وهذا سيُعتبر تطوّراً كبيراً في المشهد الإقليمي. فبيروت، ولبنان، لطالما كانا مرآة مستقبل المنطقة، أو على الأقلّ حاضرها، في حين أنّ مشروع “الإخوان” يتراجع في كلّ مكان.

فبعد هزيمته في مصر، ها هي تركيا – إردوغان تتخلّى عنه، وها هو الرئيس التركي يحطّ في دولة الإمارات العربية المتحدة. وها هي قطر قد عادت إلى الحضن الخليجي، مع اتفاقات واضحة بوقف دعم “الإخوان”. إضافة إلى الهزيمة في ليبيا، والتراجع الكبير في تونس. ولا مكان لـ”الإخوان” في سوريا بالطبع.

“الإخوان” إذاً يخرجون من كلّ الأدوار التي تنطّحوا لها خلال العقد الفائت في عواصم المشرق والمغرب العربيّين، منذ اندلاع موجة الربيع العربي في العام 2011. فما ستكون كلفة إعادة تنبيتهم في قلب العاصمة اللبنانية؟

يذهب الدبلوماسي في حديث لـ”أساس”، إلى أنّ المجتمع اللبناني، وتحديداً الشارع السنّيّ في لبنان، قد أثبت مناعة كبيرة اتجاه الإسلام السياسي

اطمئنان عربيّ؟

يقلّل دبلوماسي عربي من أهميّة هذا الرقم. فإذا كان سقف الحضور الإسلامي لن يتجاوز المقاعد الخمسة، في لحظة انكفاء وعزوف القيادات السنّيّة الأساسيّة، فهذا أمر يبشّر بالخير.

يذهب الدبلوماسي في حديث لـ”أساس”، إلى أنّ المجتمع اللبناني، وتحديداً الشارع السنّيّ في لبنان، قد أثبت مناعة كبيرة اتجاه الإسلام السياسي. في عزّ الاندفاع السنيّة المتعاطفة مع الثورة السورية، من البقاع وطرابلس وعكّار، الأقرب إلى سوريا في الجغرافيا والمزاج والمذهب، وصولاً إلى بيروت والإقليم.. وفي عزّ انعطافة الشيوخ للدعوة إلى نصرة الشعب السوري، لم يتجاوز عدد المقاتلين اللبنانيين في صفف الثورة السورية الـ500.

يعود هذا إلى جذور الاعتدال في المجتمع السنّي اللبناني، الذي تحميه مؤسسات عريقة مثل جمعية “المقاصد الخيرية الإسلامية” ومدارسها، ومثل شيوخ الأزهر المعتدلين، وغيرها من المؤسسات. وهي حافظت وستظلّ تحافظ على إسلام معتدل، عجزت كلّ العقود الفائتة، منذ الثورة الإسلامية في إيران، مروراً بصعود “القاعدة”، ثمّ هبوطها، وصعود “داعش”، ثمّ هزيمتها، وأيّاً كان اسم التنظيم الذي سيخلفهما، عن تغييرها ثوابت الاعتدال هذه.

هكذا يٌستثنى حتّى الآن سُنّة لبنان من وصف “العودة إلى الولاءات الأوّليّة”. لأنّ ما هو واضح من الترشيحات والتقديرات والاستطلاعات، أنّ تيار المستقبل، أو مَن خرجوا من تيار المستقبل كي يستطيعوا الترشّح بعد عزوف الرئيس سعد الحريري، قد يفوزون بما يقارب 8 إلى 9 مقاعد سنّيّة: “المستقبل، فيما هو يقاطع، يمثّل ثلث السُنّة في لبنان، فكيف لو خاض المعركة؟ اليوم سيحصد أكثر من كلّ الجماعات الإسلامية مجتمعةً وهو مقاطع للانتخابات، وكان سيحصد نصف المقاعد لو شارك”.

سنّة لبنان ارتدّوا إلى نوع آخر من الولااءت، هي الولاء لرجال الأعمال، والمتموّلين، والعائلات السياسية العريقة. كما أنّ “الأحباش” و”الجماعة” ليسوا حلفاً، وبالتالي لا يمكن أن نتحدّث عنهم في سياق واحد. فإذا لم يكونوا “صوتاً واحداً” في مجلس النواب، لحظة التصويت على المشاريع والقوانين والقرارات، فلا يمكن اعتبارهم كتلة إسلام سياسي. والأحباش هم تاريخياً في حلف مع الثنائي الشيعي ومع النظام السوري، وليس مع تنظيمات الإخوان المسلمين”.

الخطر ليس وهماً

لا خوف إذاّ من “خطر” عودة الإسلاميين لتمثيل السُنّة في ساحة النجمة بوسط بيروت. لكنّ هل يتوسّع هذا العدد في الانتخابات التي تليها. والانكفاء والعزوف العربيّان، معطوفَيْن على عزوف الحريري ونوّابه، ألن يدفعا بالبيئة الحاضنة للحريريّة الوطنية إلى “الولاءات الأوّليّة”، خصوصاً مع موجات الفقر والعوَز الشديد التي تعصف باللبنانيين، وليس خافياً على أحد أنّ أكثر المناطق عوَزاً وفقراً هي مناطق السُنّة، وأريافهم ومدنهم، في غياب الراعي الإقليمي.

بالنسبة إلى مصر، لا خلاص خارج العروبة. كلّ ما عداها هو “لهو خارج التاريخ”. لن تنهض أيّ دولة عربية من التطاحن المذهبي، بين تطرّف شيعي وتطرّف سنّيّ، إلا بالدولة الوطنية العربية العميقة

يعرف العرب أنّ “العروبة” هي الوحيدة المخوّلة الوقوف في وجه التطرّف. لهذا فإنّ العروبة هي الخلاص. كان هذا هو الحال في ليبيا وتونس، وكذلك في دول الخليج، وأيضاً في مصر وغيرها.

لا يحبّ المصريون الحديث عن المذاهب والطوائف. بالنسبة إليهم لبنان هو “دولة”، ولا فرق بين مكوّناتها. فهم ليسوا على خلاف مع أيّ طائفة، وليسوا حلفاء طائفة ضدّ أخرى. بل الأصحّ أنّ سعيهم إلى دعم صمود “الدولة العميقة”، في الأمن والاقتصاد، هو جزء من الاستراتيجية المصرية في كلّ الأقطار العربية. ولهذا كانت المساعدات المصرية للجيش والأجهزة الأمنية، وستستمرّ وتتزايد لحماية “الدولة” ومؤسساتها.

أمّا الذين يفتّشون عن الخلاص في مركب نجاة مذهبيّ، فهم يشبهون مَن يسوّر جزيرته، فيما التسونامي الآتي سيُغرق الأرخبيل كلّه. ومَن يركض لاهثاً ليحكم لبنان فيما هو يغرق بكلّ مَن فيه، يشبه مَن يريد إجراء انتخابات ليحكم سفينة التايتانيك، وهو يصرّ على أنّ الاصطدام بجبل الجليد لن يؤذي السفينة. وفي النهاية ستغرق السفينة بمَن فيها.

العروبة العميقة

بالنسبة إلى مصر، لا خلاص خارج العروبة. كلّ ما عداها هو “لهو خارج التاريخ”. لن تنهض أيّ دولة عربية من التطاحن المذهبي، بين تطرّف شيعي وتطرّف سنّيّ، إلا بالدولة الوطنية العربية العميقة.

والزلزال الذي ضرب الدول العربية، بمشرقها ومغربها، في 2011، بدأ خطره ينحسر، وبدأت الدول والشعوب تستعيد حضور “الدولة” فيها، خارج التطرّف والولاءات القبلية. فقد بدا أنّ بعض الشعوب تعود إلى أسوأ من نقطة الانطلاق، لحظة اندلاع “الربيع”. بدا أنّ هناك اتّجاهاً للعودة إلى العصور الوسطى، بدلاً من الذهاب إلى الحداثة.

تكون مواجهة التطرّف واحتمالاته بالمحافظة على مؤسّسات الدولة، بالعمل على تجديد شباب ما شاخ منها، وإعادة بناء ما تهدّم، وإصلاح ما فسد. لكن ليس الهدم، فحينها يبدأ الفراغ، وأيّ طرف مهيّأ لملء الفراغ سيكون طرفاً غير حداثيّ.

لبنان نقطة ارتكاز

– لبنان في هذا المعنى هو آخر نقطة ما زال بالإمكان الحفاظ فيها على مؤسّسات الدولة مقارنة بسوريا والعراق:

– العراق بدأ يعود إلى حضن الدولة مع تراجع دول الميليشيات الإيرانية وهزيمتها الانتخابية.

– أمّا سوريا فانهيارها كبير جدّاً، مع 5 احتلالات لجيوش أجنبية على أرضها: روسي، تركي، إسرائيلي، أميركي، إيراني، غير الميليشيات التي لا تُعدّ ولا تُحصى.

لذا يجري التركيز على توفير مقوّمات الصمود في لبنان. فلبنان هو آخر قلعة للدفاع عن فكرة الدولة الوطنية في المنطقة.

الحلّ المطروح هو إيجاد “إدارة انتقالية إلى حين إعادة إطلاق النهوض الاقتصادي وبناء المؤسسات، وإعادة تكوين السلطة، بأقلّ قدرٍ من الإضرار بالمؤسسات”.

هذا هو مفتاح مصر في لبنان: إثبات أنّ في الإمكان إيجاد تسويات لا تفضي إلى الانكفاء الكامل إلى الولاءات الأوّليّة في المشرق العربي.

إقرأ أيضاً: مصر والعروبة العميقة (1/3): نزوح لبناني إلى القاهرة؟

وإذا سألنا: ماذا تريد مصر من لبنان؟

سيأتي الجواب: “أولويّة مصر ليست مَن يحكم لبنان، بل الحكم نفسه. مصر أكبر دولة عربية، ومَن سيحكم سيتفاهم معها بالتأكيد. الأهمّ أن تصمد الدولة. الدولة الوطنية هي الأساس”.

في الحلقة الثالثة غداً:

استراتيجية تحتمس الثالث.. لاستعادة الراية العربية

مواضيع ذات صلة

الاتّفاق Done: إعلانه خلال أيّام.. أو أسابيع؟

بين واشنطن وتل أبيب وبيروت أصبحت شروط الاتّفاق معروفة، ولا ينقصها سوى لمسات أخيرة قد تستلزم يوماً واحداً، وقد تطول لأسابيع، أربعة ربّما. لكن ما…

“اليوم التّالي” مطعّم بنكهة سعوديّة؟

لم يعد خافياً ارتفاع منسوب اهتمام المملكة العربية السعودية بالملفّ اللبناني. باتت المؤشّرات كثيرة، وتشي بأنّ مرحلة جديدة ستطبع العلاقات الثنائية بين البلدين. الأرجح أنّ…

مخالفات على خطّ اليرزة-السّراي

ضمن سياق الظروف الاستثنائية التي تملي على المسؤولين تجاوز بعض الشكليّات القانونية تأخذ رئاسة الحكومة على وزير الدفاع موريس سليم ارتكابه مخالفة جرى التطنيش حكوميّاً…

“الفرصة الأخيرة” وسط الألغام

قبل ساعات من وصول الموفد الأميركي آموس هوكستين تقصّد العدوّ الإسرائيلي كما الحزب رفع مستوى الضغط الميداني إلى حدّه الأقصى: إسرائيل تكرّر قصف عمق العاصمة…