في مدينة سودرتاليا قرب العاصمة السويدية استوكهولم، وصل عدد من موظفي مكتب الخدمات الاجتماعية أو ما يعرف بـ”السوسيال” إلى مستشفى المدينة، وعلى الفور بدأ أحد الموظفين بالحديث مع سيّدة ثلاثينية بعدما أنجبت طفلها مباشرة، وذلك بهدف إقناعها بتسليمه رضيعها الذي لم يمضِ على ولادته ساعات.
لم تتردّد الأم المستلقية على السرير، التي كانت تحت تأثير المخدّر الخاصّ بالولادة، بالتوسّل لموظف “السوسيال” لترك طفلها وعدم انتزاعه منها، لكن من دون جدوى لأنّ مستشفى سودرتاليا، حيث وُلد الطفل، قدّم بلاغاً للخدمات الاجتماعية يتعلّق بمخاوفه على سلامة الطفل من حيث طرق رعاية الوالدين لمولودهما الجديد.
كان هذا البلاغ كفيلاً بتحريك ثلاثة موظفين من “السوسيال” بشكل فوري وانتزاع الطفل من والديه، ونقله إلى مكان يجهله الأهل، من دون التصريح عن مكان إقامته ومع مَن يعيش.
تُعتبر دائرة الشؤون الاجتماعية، المعروفة اختصاراً بـ”السوسيال” في السويد، السلطة المسؤولة قانونياً عن ضمان تنشئة الطفل في بيئة صحيّة وآمنة
يصف والد الطفل، الذي يتحدّث باللغة العربية، ما حدث بأنّه سوء تفاهم حول نوعية الرعاية والطعام المقدّم للطفل، مشيراً إلى أنّه وزوجته لم يُستجَب لطلبهما مترجماً خلال وجودهما في قسم الأمومة بالمستشفى على الرغم من طلبهما ذلك أكثر من مرّة.
وقال الوالد لـ”أساس”: “هذا طفلنا الأول، لذلك نحن نحتاج إلى المساعدة والمزيد من المعلومات عن كيفية رعاية الطفل من حيث الطعام والنظافة، ولو قُدّمت لنا مساعدة عبر مترجم لكنّا تجنّبنا تدخّل السوسيال”.
من جهتها، أوضحت ماريا هيستروم، مديرة الرعاية في قسم الأمومة بمستشفى سودرتاليا، أنّ لديهم مسؤولية قانونية بإخبار الخدمات الاجتماعية في حال شعورهم بالقلق على سلامة الأطفال، لكنّها أعربت عن أسفها لعدم حصول الوالدين على مترجم عندما شعرا أنّهما بحاجة إلى ذلك.
دفعتنا هذه الحادثة وغيرها إلى البحث معمّقاً لمعرفة الأسباب الحقيقية لـ”أخذ الأطفال”، والنهج القانوني المتّبع في العملية، وتحديد نطاق المسؤولية بدءاً من الشكوى حتى صدور قرار المحكمة. وهي ظاهرة انتشرت فيديوات حولها على مواقع التواصل الاجتماعي في الدوائر العربية، باعتبار أنّ السويد “تخطف أطفال المسلمين”…
فما هي الحقيقة وراء هذه الظاهرة؟
يكشف “أساس” عبر مقابلات حصرية مع عائلات “فقدت” أطفالها في السويد بهذه الطريقة، مدى إمكانية استرجاع الأطفال “المسحوبين”، إضافة إلى آراء خبراء ومختصّين في القانون يسلّطون الضوء على المشكلة التي باتت الهاجس الأكبر للعائلات المقيمة في السويد.
بدايةً: ما هي مصلحة الشؤون الاجتماعية “السوسيال”؟
تُعتبر دائرة الشؤون الاجتماعية، المعروفة اختصاراً بـ”السوسيال” في السويد، السلطة المسؤولة قانونياً عن ضمان تنشئة الطفل في بيئة صحيّة وآمنة.
تأُسّست دائرة “السوسيال” بهدف حماية الطفل عندما يكون عرضة للإهمال الواضح، كأن يتعرّض للعنف الجسدي والنفسي، أو كأن يكون أحد أفراد الأسرة مدمناً على المخدّرات.
حديث الصورة: أمّهات تعتصمنَ قرب البرلمان السويدي في العاصمة استوكهولم للمطالبة باسترجاع أطفالهنّ المسحوبين من قبل دائرة السوسيال في السويد (خاص “أساس”).
في حال تلقّت هذه المؤسسة معلومة تفيد بوجود خطر يهدّد الطفل، يحقّ لها سحبه بسلطة القانون وفتح تحقيق في الأمر، ثمّ وضعه عند “عائلة مضيفة” بموجب قرار يصدر عن المحكمة الإدارية في كلّ بلدية. بمعنى آخر، وفق القانون، تنتقل الحالة القانونية، بموجب قرار صادر عن المحكمة الإدارية في كلّ بلدية، من الوالدين إلى دائرة الخدمات الاجتماعية.
لا يُعدّ إجراء سحب الأطفال أمراً جديداً في السويد، شأنها في ذلك شأن معظم الدول الأوروبية الموقِّعة على اتفاقيات أممية لحماية حقوق الطفل. ولا يقتصر تطبيق هذا الإجراء على الأسر اللاجئة حديثاً بل يشمل عائلات من كلّ شرائح المجتمع السويدي.
من بين هذه العائلات، السيدة هدى المتحدّرة من العراق، والتي تسكن في السويد منذ خمسة وعشرين عاماً، وتعيش في بعد تامّ عن ابنتها الصغيرة البالغة من العمر 11 عاماً، والتي تمّ سحبها من قبل دائرة “السوسيال”.
وُجّهت إلى السيدة تهم كثيرة كانت وراء قرار سحب ابنتها، تنوّعت بين الإجبار على الزواج وفرض الحجاب. وهي تهمٌ تعتبرها “السوسيال” أسباباً كافية لسحب الطفل من عائلته.
تقول هدى إنّها أثبتت مراراً وتكراراً ما هو عكس ادّعاء السوسيال، لكنّهم يرفضون الاستماع لها أو الاقتناع بما تقدّمه من أدلّة.
تتقاطع شهادة السيدة مع شهادة ثماني عائلات التقت معهم “أساس” تُظهر بشكل واضح أنّ أعداد الأطفال من خلفيّات أجنبية ولاجئة الذين تعرّضوا للحرمان من ذويهم هي أكبر من أعداد الأطفال من أصول سويدية.
حديث الصورة: صور لأطفال تمّ سحبهم من قبل دائرة “السوسيال” وُضعت في الساحة الرئيسية وسط مدينة غوتنبرغ، جنوب السويد (خاص ” أساس”).
البلاغ هو الأساس
تعيش مريم حسين (36 عاماً) منذ أكثر من خمس سنوات في السويد. وهي سوريّة وأمّ لأربع بنات تراوح أعمارهنّ بين 3 و9 سنوات.
بدأت مشاكل السيدة مع “السوسيال” بعدما أرسلت المدرسة التي ترتادها ابنتها الصغيرة بلاغاً إلى دائرة “السوسيال” يفيد بشبهة حول تعرّض الطفلة لعنف، وهو ما يجعلها تبكي بشكل متكرّر في المدرسة.
لاحقاً بدأت دائرة “السوسيال” تحقّق مع الأهل حول تعرّض البنات الأربع لـ”معاملة سيّئة وعنف أسري”، وقبل انتهاء التحقيق تمّ سحب الطفلات الأربع من دون سابق إنذار.
تبدأ “السوسيال” بالتحقيق لحظة تلقّيها معلومات تفيد مثلاً بتعرّض طفل لسوء معاملة أو وجود خطر يتهدّده. هدف التحقيق هو بيان حاجة الطفل إلى دعم “السوسيال” أو عدمها.
إذا تبيّن خلال التحقيق أنّ الطفل بحاجة إلى حماية عاجلة، لكنّ الأوصياء عليه يرفضون ذلك، يمكن للسوسيال أن تتّخذ قراراً بفرض الرعاية الفورية والاحتفاظ بالطفل. وتبتّ المحكمة الإدارية فيما بعد إمكان تطبيق قرار “السوسيال” أو لا. وفي تلك الحالة، يُتاح للسوسيال أن تطلب مساعدة الشرطة إذا لزم الأمر لتطبيق القرار.
تقول مريم في اتصال هاتفي مع “أساس” إنّ “موظفي السوسيال انتزعوا أولادي من دون أيّ دليل، وفقط لوجود شكّ في تعرّض بناتي للعنف على الرغم من أنّ المدّعي العام أغلق القضية بعد إجراء الفحوصات الطبية اللازمة، وأكّد عدم تعرّض بناتي لأيّ عنف أسريّ. لقد سرقوا أطفالي”.
تستطيع الخدمة الاجتماعية “السوسيال” بموجب القانون سحب جميع أطفال العائلة، إذا ما تعرّض أحدهم لظروف تعتبرها الخدمة الاجتماعية غير مناسبة ضمن الإطار العائلي، مثل العنف أو عدم القدرة على إعطاء الطفل ما يحتاج إليه من أساسيّات.
وتبيّن الحكومة السويدية أنّ لكلّ حالة وضعاً خاصاً. ففي بعض الحالات تحرص الخدمات الاجتماعية على وضع الطفل في منزل قرب منزل عائلته الأمّ، وفي حالات أخرى يتمّ التكتّم بشكل كامل على مكان وجوده، حرصاً على سلامته، وبما يخدم مصلحة الطفل بحسب تقدير “السوسيال”.
بعد سحب الأطفال، يراجع “السوسيال” قرار فرض الرعاية أو قرار إعادة النظر فيه كلّ ستّة أشهر على الأقلّ. ولكن هل يعود الأطفال إلى ذويهم حقّاً؟
حديث الصورة: وفقاً لقانون (LVU)، يمكن للـ”سوسيال” أن تقدّم طلباً إلى المحكمة للحصول على حقّ الرعاية، لأنّ المحكمة هي المخوّلة تقرير وجود أسباب توجب فرض الرعاية الإجبارية أو لا (خاص “أساس”).
في الجزء الثاني غداً:
كيف السبيل إلى “عودة الأطفال” لذويهم؟
إقرأ أيضاً: المساعدات الإنسانيّة في سوريا “ابتزاز سياسيّ”