لا نحتاج إلى انتظار نهاية الحرب في أوكرانيا، أو بالأحرى احتلال الجيش الروسي لكامل أراضي هذه البلاد، لندرك حجم المتغيّرات السياسيّة والأمنية والاقتصادية التي فرضها الغزو الروسي لأوكرانيا على العالم. منذ الآن يمكننا القول وبثقة مطلقة إنّنا بتنا نعيش في عالم مختلف عن ذلك الذي عشنا فيه منذ نهاية الحرب الباردة إثر انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991.
ثمّة رأي في أوروبا يقول إنّ الهجوم الروسي على أوكرانيا هو بمنزلة 11 أيلول أوروبي، بالمقارنة مع التداعيات الهائلة لـ11 أيلول الأميركي على أميركا والعالم. أمّا المستشار الألماني أولاف شولتس فاختار تعبيراً أكثر بساطة ووضوحاً عندما اعتبر هذا الهجوم “لحظة تحوّل في أوروبا والعالم”.
الحرب الأوكرانية سرعان ما ارتدت طابعاً دولياً يتجاوز جغرافيّتها الحصريّة، وهو ما جعل منها حرباً ذات طابع عالمي بامتياز
الواقع أنّ تبعات الغزو الروسي لأوكرانيا طالت العالم من أقصاه إلى أقصاه وتردّدت أصداؤه المُفزعة في أروقة الحكومات ووزارات الدفاع والبورصات، بل وفي حياة كلّ شخص وكلّ عائلة، ولا سيّما في ظلّ الارتفاع القياسي لأسعار النفط والقمح، مع الخشية من أزمة غذاء عالمية.
بقيت الحرب السورية على الرغم من تعدّد التّدخّلات الإقليمية والدولية فيها، و”أكبرها” التدخّل الروسي، حرباً ذات طابع إقليمي بالدرجة الأولى، وكذلك حروب العراق واليمن وأفغانستان. أمّا الحرب الأوكرانية فسرعان ما ارتدت طابعاً دولياً يتجاوز جغرافيّتها الحصريّة، وهو ما جعل منها حرباً ذات طابع عالمي بامتياز.
ليس قليل الدلالة في هذا السياق أن تتردّد عبارة “الحرب العالمية الثالثة” بقوّة منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط الماضي. وهي عبارة بدت جدّيّة أكثر من أيّ وقت مضى، عندما صدرت عن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي حذّر من أنّ الحرب العالمية الثالثة إذا ما وقعت فستكون حرباً نوويّة.
حتّى لو كان تصريح لافروف يأتي في إطار التهديد ورفع السقوف كإحدى وسائل الضغط السياسي والحرب النفسية، فإنّ استحضار السلاح النووي في هذه المعركة ولو تهويلاً دليل واضح على حجم الاحتقان الروسي – الغربي. وللتحديد أكثر هو مؤشّر إلى تصميم موسكو على ألّا تخرج مهزومة من هذه الحرب ومن الصراع مع الغرب، أيّاً تكن الوسائل لاستبعاد هذه الهزيمة، ومهما كانت الأكلاف المترتّبة عليها.
هذا ما جعل الغربيين يأخذون التهديد الروسي باستخدام السلاح النووي على محمل الجدّ بوصفه إحدى وسائل موسكو لمنع وقوع الهزيمة عليها، ولو كان آخرَ هذه الوسائل. هذا فضلاً عن أنّ الناس العاديّين في أوكرانيا وفي بعض الدول الأوروبية استهولوا هذا الخطر الآتي من الشرق، ولذلك تهافتوا على الصيدليات لشراء اليود للوقاية من أيّ إشعاعات نووية محتملة.
نعم عاد السلاح النووي ليشكّل عنصراً متقدّماً من عناصر موازين القوى الدولية وعلى نحو غير مسبوق منذ سقوط جدار برلين. وهو ما يعيدنا إلى مقولة المفكّر الفرنسي ريمون آرون: “سلام مستحيل، حرب غير متوقّعة”.
ابتدع آرون مقولته هذه في العام 1948 لتوصيف معادلة الردع النووية بين المعسكرين الغربي والسوفياتي في مطلع الحرب الباردة. وها هو الغزو الروسي لأوكرانيا يعيد إرساء هذه المعادلة بعدما جعل السلام في أوروبا مستحيلاً، أو أقلّه ما عاد في إمكان أوروبا أن تطمئن إلى أنّ الحرب جزءٌ من تاريخها لا من حاضرها ومستقبلها.
عاد السلاح النووي ليشكّل عنصراً متقدّماً من عناصر موازين القوى الدولية وعلى نحو غير مسبوق منذ سقوط جدار برلين. وهو ما يعيدنا إلى مقولة المفكّر الفرنسي ريمون آرون: “سلام مستحيل، حرب غير متوقّعة”
الستاتيكو القاتل
في الوقت نفسه فإنّ حرباً مباشرة بين المعسكرين الروسي والغربي تبقى غير محتملة ولأسباب نووية أوّلاً. فتحفُّظ “الناتو” عن الدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا في أجواء أوكرانيا وعلى أرضها لا يعود وحسب إلى خشية الأوروبيين من تحوّل الحرب الأوكرانية إلى حرب “تقليدية” شاملة في أوروبا.
الغربيون يقدّرون أنّ إلحاق هزيمة ساحقة وسريعة بالجيش الروسي في أوكرانيا قد تدفع الكرملين إلى إدخال السلاح النووي في المعادلة الحربية. وليست صدفة أن تستهدف موسكو محطّتين نوويّتين في أوكرانيا، وهي الآن تحاول السيطرة على المحطّة الثالثة من مجمل المحطّات النووية الأربع في البلاد، وكلّ ذلك لإبقاء الشبح النووي مستيقظاً خلال الحرب.
لذلك سيترك الغربيون الكرملين ينفّس احتقانه في أوكرانيا، أي أنّهم لن يتدخّلوا بشكل مباشر في الصراع هناك حتّى لو احتلّ الجيش الروسي كامل البلاد. وهم سارعوا إلى رسم خطّ أحمر رئيسي أمام موسكو منذ الأيام الأولى للحرب، مفاده أنّ اعتداء موسكو على أيّ بلد أطلسي على الحدود مع أوكرانيا سيستدعي تدخّلاً مباشراً من قبل “الناتو” للدفاع عنه، في وقت تمّ الإعلان عن تحوّل استراتيجية حلف شمال الأطلسي في الشرق الأوروبي من ردعيّة إلى هجوميّة.
إذاً نحن أمام ستاتيكو متحرّك لكن مضبوط في الحرب الأوكرانية. فمن ناحية هناك تقدّم بطيء لكن متواصل لآلة الحرب الروسية داخل الأراضي الأوكرانية في وقت يُظهر الجيش والمقاومة الأوكرانيّان استعداداً للقتال في المدن الرئيسية، وخصوصاً العاصمة كييف. ومن الناحية الأخرى يواصل الغرب فرض عقوبات اقتصادية قاسية جدّاً على موسكو، وقد اعتبرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمنزلة إعلان حرب على بلاده.
موقف أميركا العسكري
كما يواصل البنتاغون الأميركي والاستخبارات الغربية، ولا سيّما البريطانية، رصدَ إخفاقات الجيش الروسي العسكرية واللوجستية بعدما دفع بالجنود المئة والخمسين ألفاً الذين كانوا يرابطون على حدود أوكرانيا إلى أرض المعركة، بحسب وزارة الدفاع الأميركية.
في مقابل الهجوم الروسي داخل الأراضي الأوكرانية، يشنّ الغرب هجوماً مضادّاً على نظام الرئيس بوتين داخل موسكو من خلال زعزعة ركائزه الاقتصادية وتأليب رجال الأعمال والطبقات المتضرّرة ضدّه. ولا ننسى أنّ الاتحاد السوفياتي سقط لأسباب اقتصادية بعدما أدّى سباق التسلّح مع الولايات المتحدة إلى إنهاك الاقتصاد الروسي. وهو ما حدا بميخائيل غورباتشوف، آخر الرؤساء السوفيات، إلى عقد لقاءات متتالية مع الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ريغن بغية وضع حدّ لسباق التسلّح هذا.
لذلك سيكون هذا الستاتيكو مكلفاً جدّاً على روسيا، وستزداد تكلفته عليها كلّما تأخّر الجيش الروسي في حسم المعركةن وكلّما تأخّر الكرملين في تحقيق أهدافه الأربعة من الحرب، وهي:
إقرأ أيضاً: أوروبا: الحرب تجدّد شبابها
لكن هل تضمن موسكو تحقيق هذه الأهداف بالحرب أم بالمفاوضات كما قال بوتين؟ والأهمّ، ما هو الوقت الذي سيستغرقه تحقيق الكرملين لأهدافه المعلنة، وبأيّة تكلفة؟
صحيح أنّ الحلّ السياسي للأزمة الأوكرانية ليس مرتبطاً أو ليس شرطه احتلال الجيش الروسي كلّ أوكرانيا، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ هذا الحلّ ليس مرتبطاً أو ليس شرطه انسحاب الجيش الروسي من كلّ أوكرانيا.
فهل نحن أمام “استيطان” للصراع في أوكرانيا بحيث يواجِه احتلال الجيش الروسي لكامل أوكرانيا مقاومة “مستدامة”، بينما لا تستطيع هذه المقاومة إخراج هذا الجيش من كامل البلاد، مع ما يعنيه ذلك من “حرب استنزاف” طويلة الأمد، فنكون أمام “تجذّر” الستاتيكو المنهِك لـ”البوتينيّة”؟!