ديفيد باين (David T. Pyne) – The National Interest
بعد أسبوعين تقريباً من غزو روسيا لأوكرانيا، ما تزال الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الروسي في دوّامة تصاعدية من العقوبات الاقتصادية المتزايدة، والأعمال العسكرية، والهجمات السيبرانية المتبادلة، والتهديدات النووية التي يمكن أن تتفاقم مع عواقب وخيمة محتملة على العالم.
تذكّرنا الآثار المتتابعة للغزو الروسي على نحوٍ مفزعٍ بالتاريخ الحديث، عندما حوّلت القوى العظمى المتحالفة صراعات أوروبا الشرقية إلى حربين عالميّتين غير ضروريّتين، تسبّبتا في دمار غير مسبوق، وخسارة عشرات الملايين من الأفراد. وكلّما استمرّت الولايات المتحدة في تصعيد حربها الاقتصادية، وحربها بالوكالة (proxy war) ضدّ روسيا في أوكرانيا، كبُر احتمال أن نرى التاريخ يعيد نفسه.
قبل ثمانين عاماً، كان الهجوم المفاجئ الذي شنّته الإمبراطورية اليابانية على بيرل هاربور (Pearl Harbor) ردّاً على عقوبات اقتصادية أميركية مماثلة تهدف إلى خنق اقتصاد اليابان آنذاك، بوصفه تذكيراً مخيفاً بالكيفيّة التي يمكن أن تنظر بها موسكو إلى محاولات أميركا إحداث “انهيار” في الاقتصاد الروسي على أنّها تهديد وجوديّ لها، ممّا قد يؤدّي إلى استفزازها، والردّ بهجوم مفاجئ على البنية التحتية الحيوية للولايات المتحدة باستخدام النبض الإلكتروني أو النبض الكهرومغناطيسي (EMP) أو حتى الأسلحة النووية.
ستكون رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو اختياراً ممتازاً لتكون الرئيسة القادمة لأوكرانيا نظراً إلى أنّها كانت قائدةً للثورة البرتقالية، واُحتُجزت كسجينة سياسية ما بين عاميْ 2011 و2014
انضباط روسيّ
من المحتمل أن تستمرّ الحرب في أوكرانيا لمدّة شهرين إلى ثلاثة أشهر أخرى، وهذا سيؤدّي إلى مقتل عشرات الآلاف من الأوكرانيين وتدمير بعض مدنها الكبرى، إن لم يكن معظمها. وفي حين تمتّعت القوات الأوكرانية بنجاحات تكتيكية محدودة في تأخير تقدّم روسيا، فليس موضع شكّ الانتصار النهائي لروسيا نظراً لتفوّقها العسكري الساحق. وعلى عكس السرديّة الإعلامية الشائعة، أظهرت روسيا ضبطاً مفاجئاً للنفس في الامتناع عن استعمال أقوى أسلحتها، بما في ذلك الأسلحة النووية، والكهرومغناطيسية، والكيميائية، والبيولوجية، والنووية التكتيكية، في محاولة واضحة لتقليل الأضرار الجانبية.
يمكن لروسيا أن تختار استعمال هذه الأسلحة لإنهاء الحرب بشروطها بسرعة أكبر، وبتكلفة منخفضة من حيث الرجال والمعدّات الروسية. وبالمقابل، فإنّ لجوء موسكو إلى أسلحتها غير التقليدية سيتسبّب بانقطاع الاتصالات مع الحكومة الأوكرانية، وهو ما من شأنه أن يعيق المفاوضات الثنائية لإنهاء الصراع. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ استخدام مثل هذه الأسلحة سيؤول أيضاً إلى خسائر أكبر بكثير في صفوف المدنيين الأوكرانيين، ممّا يؤجّج أكثر فأكثر الرأي العام الأوكراني (والدولي) ضدّ موسكو، ويجعل من الصعب جدّاً على الحكومة الأوكرانية الصديقة لروسيا في المستقبل الحصول على الدعم الشعبي.
حفظ ماء الوجه
وكما كتبتُ لمجلة “ناشيونال إنترست” في كانون الثاني الفائت، ينبغي على الولايات المتحدة أن تفعل كلّ ما في وسعها لتهدئة الصراع الأميركي المتّسع مع روسيا لتجنّب اندلاع الحرب العالمية الثالثة.
ما أدركه الرئيس جون كينيدي (John F. Kennedy) أنّ أهمّ درس مستفاد من أزمة الصواريخ الكوبية، هو أنّ قادة القوى النووية العظمى بحاجة إلى نزع فتيل الأزمات من خلال مساعدة بعضهم بعضاً على إيجاد حلول وسط متبادلة تحفظ ماء الوجه. قد ينفد الوقت بسرعة للتفاوض على حلّ سلمي للصراع. ويدلّنا التاريخ على أنّه كلّما طال أمد الحرب، أصبح كلّ طرف أكثر تشدّداً وأقلّ استعداداً لتقديم تنازلات، في الأقلّ إلى أن ينتصر أحد الأطراف المتحاربة، ويفرض شروط السلام الخاصّة به بقوّة السلاح.
السؤال، الذي جهد القادة الغربيون للإجابة عليه أخيراً، هو: ما أهداف الرئيس الروسي في الحرب على أوكرانيا؟ وجواب الحكومة الروسية هو الطلب من أوكرانيا الموافقة على تعديل دستورها لتكريس حيادها، والالتزام بعدم الانضمام إلى أيّ كتلة عسكرية، وربّما يكونان مصحوبين بضمانات دولية مماثلة لمعاهدة الدولة النمساوية (Austrian State Treaty) لعام 1955، إضافة إلى “نزع السلاح”، وهو ما أشار إليه مصدر روسي من أنّه يجب أن تسلّم أوكرانيا أسلحتها الهجومية أو أن تدمّرها كجزء من اتفاقية وقف إطلاق النار. ومن المرجّح أن تشمل الطائرات الهجومية من نوع سوخوي 24 و25، والطوّافات من نوع Mi-24، والصواريخ المضادّة للسفن من نوع نبتون، وبعض أنواع مدافع الهاوتزر وصواريخ الغراد، والطائرات القتالية من دون طيّار، والصواريخ المضادّة للطائرات من نوع S-300. إلى ذلك سيُحظر على كييف تطوير أسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك الأسلحة النووية أو البيولوجية أو الكيميائية.
يجب أن تكون الأولويّة القصوى للإدارة في الوقت الحالي تحفيز الحكومة الأوكرانية على إبرام اتفاق سلام يكون حلّاً وسطاً مع روسيا لتزويد بوتين بـ”مخرج” يحفظ ماء الوجه، ويسمح لروسيا بإنهاء الحرب
سيناريو فنلندا في أوكرانيا
قالت روسيا أيضاً إنّ على أوكرانيا الاعتراف بضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم، واستقلال جمهوريّتيْ دونيتسك ولوهانسك الانفصاليّتين “داخل حدودهما الدستورية”، أي كامل مساحة المنطقتين وفق التقسيم الإداري، وهو ما قد يرقى إلى خسارة ما يزيد قليلاً على 6% من أراضي أوكرانيا، وأكثر من 6.5% من سكّانها قبل الغزو الروسي. ستكون هذه خسارة مؤسفة، لكنّها ليست كارثية لأوكرانيا، التي ستبقى ثاني أكبر دولة في أوروبا، باستثناء تركيا، وستوازي أكثر من ضعف مساحة المملكة المتحدة، أي بريطانيا التي يبلغ عدد سكانها ما يقرب من ضعف سكان أوكرانيا.
نفت وزارة الخارجية الروسية أنّها بحاجة إلى الاستيلاء على كييف قبل تنفيذ وقف إطلاق النار، أو أنّها تنوي فرض نظام عميل لروسيا، أو أنّ روسيا تخطّط لضمّ أيّ أراضٍ إضافية، أو أنّها تخطّط لاحتلال أوكرانيا بجيشها. وهنا يبدو أنّ شروط السلام الروسية الأقلّ توسّعية تدحض أقاويل أولئك الذين كانوا يزعمون أنّ بوتين يحاول إعادة توحيد الإمبراطورية السوفياتية. وسيكون أثر اتفاقية كهذه مشابهاً جدّاً لمعاهدة موسكو للسلام لعام 1940 التي أنهت حرب الشتاء بين فنلندا والاتحاد السوفياتي، وضمنت استقلال فنلندا على المدى الطويل. (أوجه المقارنة مذهلة بين الحربين، فالاتحاد السوفياتي كان يهدف من حربه على فنلندا ضمّ بعض الأراضي، وتنصيب حكومة عميلة. نجحت الدولة الصغيرة في مقاومة جيش يبلغ عديده 630 ألف جندي، أكثر من 3 أشهر، وألحقت به خسائر بشريّة فادحة بلغت حوالى 15 ألف قتيل، وأحدثت تشويهات في صورة الجيش السوفياتي، وهو ما شجّع هتلر على غزو روسيا بعد ذلك. وقد فقدت فنلندا 9% من مساحتها، وأصبحت دولة محايدة). بالمثل، سيحوّل اتفاق السلام أوكرانيا بشكل أساسي إلى “دولة عازلة” محايدة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي.
دور أميركيّ في الحلّ
أكبر عقبة أمام إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، هي استمرار الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في إعطاء أمل كاذب للقادة الأوكرانيين على الرغم من حقيقة أنّ كييف على وشك أن تُحاصَر، وأنّ احتمالات هزيمة روسيا عسكرياً غير موجودة تقريباً. ويجب أن تدرك إدارة بايدن أنّ استمرار نقل الأسلحة من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي إلى أوكرانيا لن يكون مفيداً على الإطلاق، إذا كان هدفها هو إنهاء الحرب بسرعة وحمل روسيا على سحب قواتها العسكرية من أوكرانيا. بل إنّها، في الواقع، تساهم في إطالة أمد الحرب دون داعٍ، ورفع حجم الموت والدمار الذي سيترتّب على ذلك حتماً. علاوة على ذلك، يجب إدراك أنّ العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا هي عقوبات عقابية تماماً، وليس لها أيّ تأثير رادع على السلوك العدواني لروسيا.
يجب أن تكون الأولويّة القصوى للإدارة في الوقت الحالي تحفيز الحكومة الأوكرانية على إبرام اتفاق سلام يكون حلّاً وسطاً مع روسيا لتزويد بوتين بـ”مخرج” يحفظ ماء الوجه، ويسمح لروسيا بإنهاء الحرب. وفقاً لذلك، يجب على الرئيس جو بايدن الدخول في نقاش مباشر جدّاً مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وإخباره أنّه نظراً لقرار الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي عدم إرسال قوات لمحاربة روسيا في أوكرانيا، فمن المحتمل أن يكون تحقيق نصر عسكري روسي مسألة وقت فقط. يجب أن يشجّع بايدن زيلينسكي على قبول شروط السلام الروسية التي ليست كلّها غير معقولة. فكلّما طال أمد الحرب زادت التكلفة على كلا الجانبين، وأصبحت الشروط الروسية أسوأ، إذ قد تصل إلى الضمّ الكامل لأوكرانيا. وفي مقابل أن تتصالح أوكرانيا مع روسيا، يجب على القادة الغربيين تقديم حزمة مساعدات ضخمة إلى كييف ما إن توقّع اتفاقية سلام.
ومن المتوقّع أن تطالب روسيا أيضاً بخفض كبير في حجم القوات البرّية الأوكرانية، ربّما إلى ما لا يزيد على 150 ألف جندي. وبموجب مثل هذا الاتفاق، ينبغي السماح لأوكرانيا بالاحتفاظ ببقيّة أسلحتها الدفاعية، بما في ذلك دبابات القتال الرئيسية، والصواريخ الاعتراضية، وجميع الصواريخ المضادّة للدبابات المحمولة على الكتف، وصواريخ ستينغر (Stinger) المضادّة للطائرات التي تلقّتها بالفعل من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. لا ينبغي وضع قيود أخرى على قوّاتها المسلّحة تمنعها من الحفاظ على رادع عسكري تقليدي قويّ. من المرجّح أيضاً أن يصرّ الروس على تعليق جميع المساعدات العسكرية من واشنطن ودول حلف شمال الأطلسي لأوكرانيا إلى أجل غير مسمّى، وأن تُنهي أوكرانيا عضويّتها في برنامج الناتو للشراكة من أجل السلام. ومقابل هذه التنازلات الأوكرانية، ستلتزم روسيا بسحب جميع قوّاتها من الأراضي الأوكرانية.
استقالة زيلينسكي وإعادة تيموشينكو
كانت روسيا تصرّ أيضاً على “إزالة النازية” de-Nazification)) في أوكرانيا، ويبدو أنّها إشارة إلى استبدال الحكومة الأوكرانية الحالية بحكومة ليست “معادية لروسيا” (أي غربية المنحى). وطالبت موسكو تحديداً بفرض حظر على الأحزاب السياسية القومية الأوكرانية اليمينية (ومن بينها حزب زيلينسكي حزب خادم الشعبServant of the People Party ) والميليشيات، وتحديداً كتيبة آزوف، التي تشتهر بأنّها منظمة قومية بيضاء تابعة للنازيين الجدد وشبه عسكرية. فيما يمكن لأعضاء حزب زيلينسكي السياسي الانضمام إلى أحزاب سياسية أخرى، أو تشكيل أحزاب للترشّح مجدّداً. من المرجّح أن تطلب روسيا من زيلينسكي نفسه أن يستقيل، وأن يُمنع من الترشّح لإعادة انتخابه بموجب شروط اتفاقية السلام الجديدة، وأن يُمنع الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشنكو (Petro Poroshenko)، الذي ندّد ببوتين ووصفه بأنّه “مجرم حرب”، من الترشّح للرئاسة بموجب الاتفاقية.
إقرأ أيضاً: موسكو باعت فيينّا لتل أبيب.. أين سترد إيران؟
بعد استقالة زيلينسكي، يمكن أن يعمل رسلان ستيفانشوك (Ruslan Stefanchuk)، الذي يشغل حالياً منصب رئيس مجلس النواب، على حلّ البرلمان بصفته رئيساً بالنيابة، والإشراف على انتخابات مبكرة لانتخاب حكومة أوكرانية جديدة ملتزمة باتّباع سياسة الحياد، وتنفيذ بنودها الجديدة. وستكون رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو (Yulia Tymoshenko) اختياراً ممتازاً لتكون الرئيسة القادمة لأوكرانيا نظراً إلى أنّها كانت قائدةً للثورة البرتقالية، واُحتُجزت كسجينة سياسية ما بين عاميْ 2011 و2014، خلال عهد الرئيس المخلوع الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش (Viktor Yanukovych).
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا