تبدو مبادرة الرئيس فؤاد السنيورة متعثّرة. حتى لا نقول على طريق السقوط. كما علِمنا، كان الهدف منها لمّ شمل التيار السياسي الأبرز في الطائفة السنّيّة التي تعاني من شرذمة على أبواب انتخابات نيابية. ولا نبالغ إن قلنا إنّها انتخابات استثنائية، وربّما مصيرية، بسبب الانهيار السياسي والاقتصادي والمالي والاجتماعي في البلاد، تُضاف إليه المتغيّرات الجيوسياسية في المنطقة. واليوم يجب إضافة الحرب في أوكرانيا التي تطول تداعياتها دول العالم بأسره، ومن ضمنها لبنان.
مبادرة السنيورة مهمّة بحدّ ذاتها. وصاحبها باع طويل في المفاوضات. كنّا نعوّل عليها لتفادي الشرذمة في جمهور تيار المستقبل التي، كما سبق أن ذكرنا في مقال سابق، لها تداعياتها الخطيرة عليه وعلى الحضور السياسي للطائفة السنّيّة وعلى حلفائه السابقين في 14 آذار. ولهذه الشرذمة تداعياتها المرحلية على التركيبة الوطنية أيضاً. وستؤدّي إلى هيمنة أكبر لحزب الله على القرار الوطني.
أبعد من مبادرة السنيورة، ما يشهده تيار المستقبل يطرح أزمة الأحزاب والتيارات السياسية في لبنان
تعثّر المبادرة، وربّما سقوطها، يعودان إلى أسباب عدّة، أبرزها:
1- أنّها أتت متأخّرة. إذ ليس من السهل جمع شخصيات سياسية وتشكيل لوائح انتخابية ونحن على مسافة أسابيع من الاستحقاق الانتخابي. حتى الأحزاب المنظّمة، التي يرأسها “حاكم بأمره”، تجد صعوبة في اختيار مرشّحيها من دون أن “يزعل فلان” أو “يَحرِد علّان”.
2- عدم رضى الرئيس سعد الحريري. فبحسب ما علِمنا أنّ الحريري عمل ضدّ المبادرة التي انطلقت للَمّ شمل الطائفة السياسي بعدما ضعُف حضورها بسبب خيارات الحريري السياسية.
3- غياب الرعاية السعودية. حاول السنيورة الحصول على “بركتها”. ولكنّ القيادة السعودية تتعامل مع الملف اللبناني انطلاقاً من سيطرة حزب الله على السلطة فيه. وهذا ما لا تقبله، وانطلاقاً ممّا تعتبره “خطيئة” حلفائها بانتخابهم ميشال عون، حليف الحزب، رئيساً للجمهورية. وهي حتى الساعة ليست جاهزة لتخطّي هذين المعطَيَين.
4- توسيع السنيورة لنطاق مبادرته دون تحديد أولويات استراتيجية متغاضياً عن عدم قدرته على “المونة” السريعة على جمهور التيار، بحيث بدت حركته متسرّعة في غياب السلاح التقليدي أي القدرات المالية.
5- نأي دار الفتوى عن تأييد حركته باعتبارها مرجعاً لكلّ المرشحين وعلى مسافة واحدة منهم.
أزمة الأحزاب كلّها
أبعد من مبادرة السنيورة، ما يشهده تيار المستقبل يطرح أزمة الأحزاب والتيارات السياسية في لبنان. فما يمرّ به “المستقبل” اليوم، مرّت به أحزاب أخرى فيما مضى. ويمكن أن تشهده أحزاب في المستقبل غير “المستقبل”. وهذه الأزمة هي شخصانيّة الأحزاب السياسية فهو الزعيم. الحاكم بأمره. “أزليّ سرمدي” على رأس الحزب. حضوره يختصر الحزب. وغيابه يغيّب الحزب عن الساحة السياسية.
توسيع السنيورة لنطاق مبادرته دون تحديد أولويات استراتيجية متغاضياً عن عدم قدرته على “المونة” السريعة على جمهور التيار، بحيث بدت حركته متسرّعة في غياب السلاح التقليدي أي القدرات المالية
وصول الأحزاب السياسيّة إلى هذه الحال من الشخصانيّة سببه عاملان:
1- غياب الممارسة الديموقراطيّة في الأحزاب السياسية. وهذه تتجسّد أوّلاً في الانتخاب وتداول السلطة. وتنصّ قوانين الأحزاب على انتخابات داخلية لمسؤولي الأقسام والمناطق والتنسيقيّات والمديريّات وأعضاء المكتب السياسي، وصولاً إلى رئيس الحزب.ولكنّ هذه القوانين حبر على ورق. لا تُطبّق. وإذا ما طُبّقت تكون صُوريّة. غياب الديموقراطية يحوّل الأحزاب السياسية إلى مدرسة في الزبائنية السياسية بدل أن تكون مدرسة في الديموقراطية تنشّئ المحازب عليها ليمارسها في الحياة الوطنية. وعدم إجراء الانتخابات الحزبية يدفع بالحزبيّ إلى السعي للحصول على رضى زعيمه ليتبوّأ موقعاً ما في الحزب، أو ليصبح مرشّحاً في انتخابات نيابيّة. والمحظوظ الأكبر لدى الزعيم يصبح مرشّحاً لوزارة.
2- التعلّق بشخص الزعيم وعدم القبول بغيره على رأس الحزب. وهذا ما ينمّ عن أزمة في النضج السياسي والانتماء الحزبي، ليس فقط على مستوى الجماهير الحزبية، إنّما على مستوى الكوادر الحزبية التي يُصاب بعضها بقلّة النضج. فالنضج السياسي لا يُقاس لا بالعمر ولا بالموقع السياسي ولا بسنوات الخبرة السياسية. بل يُقاس بالتحرّر من الزبائنية السياسيّة، وبالحريّة في ممارسة الحياة الحزبية ضمن الأطر الحزبيّة وتحت سقف القانون الحزبيّ. هذا ما يحرّر المُحازب من سيطرة شخصية الزعيم عليه وعلى فكره. ويصبح انتماؤه إلى الحزب وليس إلى رئيسه. ويصبح لديه رأيه في الأحداث وفي طريقة التعامل معها. وهذا ما يعطيه الجرأة، ليس للخروج على الإجماع الحزبي في إطلاق المواقف السياسية والتعامل مع الأحداث، لأنّ ذلك يصبح خروجاً على الانضباط الحزبي، إنّما لإبداء رأيه بكلّ حريّة في الإطار الحزبي حتى لو كان مخالفاً لرأي الزعيم.
يعتبر بعض زعماء الأحزاب عندنا هذا النضج السياسي خطراً على الحزب. ربّما يكون خطراً على زعامتهم. لكنّه في الواقع غنىً للحزب. فهو يثبّت المحازب في انتمائه الحزبي. ويضمن استمرارية الحزب حتّى بعد رحيل الزعيم. فانتقال السلطة الحزبية للوريث، ابناً كان أو صهراً أو حفيداً أو زوجةً، غالباً ما يكون بداية نهاية الحزب. أو أقلّه تراجع دوره على الساحة السياسية. أليس هذا ما يتخبّط فيه ورثة الأحزاب اليوم؟
تأسس تيار المستقبل بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، قبلها كان هناك مناصرون للحريري دون إطار حزبي.. فكان المحيطون بالرئيس رفيق الحريري من طوائف مختلفة، ولاحقاً بعد تأسيس التيار مع الابن سعد، ظلّت كتلته النيابية متنوّع، فيها شيعة ومسيحيون إلى جانب السنّة.
إقرأ أيضاً: الانتخابات اللبنانية ومبادرة السنيورة
الأهمّ أنّ “التيار” ضمّ طاقات كبيرة كان وجودها في قيادة “المستقبل” واحداً من أبرز نجاحات رفيق الحريري. من المؤسف أن لا يستمرّ “المستقبل” في تبنّي بتلك القيادات وهذه الطاقات، بحيث تقود التيار إلى حين تسليم المشعل لقيادة جديدة تقوده في المستقبل…
نقول ذلك انطلاقاً من حرصنا على تيار المستقبل، ومن رغبتنا في أن يكون لدينا تيارات وأحزاب سياسية ديموقراطية بكلّ معنى الكلمة. نقول ذلك كي لا يصبح “المستقبل” من الماضي. ليس في الحريرية فقط بل في كلّ الأحزاب.
* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة