عرف النفط مقامه فتدلَّل

مدة القراءة 6 د

تصريح إماراتي واحد هبط بأسعار النفط العالمية نحو 13% قبل أن يقود تصريح إماراتي معاكس الأسعار صعوداً.

قال سفير الإمارات العربية المتحدة في واشنطن، يوسف العتيبة، لشبكة CNN إنّ بلاده تريد زيادة إنتاج النفط وستشجّع “أوبك” على زيادة إمداداتها، ليطلق أكبر انخفاض ليوم واحد في أسعار النفط منذ ما يقرب من عامين. بيد أنّ الأسعار عاودت الارتفاع بعد تصريحات مناقضة تماماً لوزير الطاقة والبنية التحتية الإماراتي، سهيل المزروعي، الذي أكّد أنّ أبوظبي ملتزمة باتفاقية “أوبك بلاس” وآليّتها الشهرية الحالية لتعديل الإنتاج، التي لا تتجاوز ضخّ زيادات شهرية تبلغ 400 ألف برميل يومياً فقط.

المعروف أنّ منظمة “أوبك” وحلفاءها بقيادة روسيا، يستحوذون على أكثر من 40% من إمدادات النفط العالمية، في حين أنّ برميلاً واحداً من كلّ عشرة براميل تنتجه روسيا، وهو ما يعني أنّه لا توجد في الأسواق ملاءة نفطية قادرة على التعويض عن النفط الروسي لو تمّ إخراجه من الأسواق.

لكنّ الأوقات الصعبة تتطلّب قرارات استثنائية. وهذا ما يدفع الإدارة الأميركية للبحث عن بدائل يمكنها أن تحدّ ولو جزئيّاً من آثار عزل روسيا عن أسواق النفط وإخراج منتوجها من التداول.

بحسب “نيويورك تايمز” تمتلك المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت طاقة فائضة، تتجاوز بقليل سقف 2.5 مليون برميل في اليوم. ويمكن أن تساهم فنزويلا وإيران بنحو 1.5 مليون برميل يوميّاً في السوق، لكنّ ذلك سيتطلّب رفع العقوبات الأميركية ضدّ هاتين الدولتين. ويمكن للولايات المتحدة زيادة الإنتاج بأكثر من مليون برميل يوميّاً، لكنّ القيام بذلك سيستغرق عاماً لتحقيقه، ويتطلّب من شركات النفط تسخير المزيد من القوى العاملة والمعدّات.

من الناحية التقنية ما تقوله “أوبك” صحيح، وهو أنّ جنون أسعار النفط مرتبط بالتطوّرات السياسية وما تستولده من مخاطر مستقبلية قصيرة ومتوسط الأجل، أكثر منه بعدم وجود النفط الكافي في الأسواق الآن، وهو ما يعني أنّ الحلّ هو سياسيّ أوّلاً وليس حلّاً جزئيّاً يتعلّق بزيادة الإنتاج، ولا سيّما أنّ أيّ زيادات مدفوعة بالذعر السياسي قد تهوي بأسعار النفط وتطلق سلسلة كارثيّة من التداعيات الاقتصادية في العالم، انطلاقاً من دول الخليج.

لأوقات الصعبة تتطلّب قرارات استثنائية. وهذا ما يدفع الإدارة الأميركية للبحث عن بدائل يمكنها أن تحدّ ولو جزئيّاً من آثار عزل روسيا عن أسواق النفط وإخراج منتوجها من التداول

وبالتالي فإنّ ما يمكن لدول الخليج تقديمه هو المساهمة في خلق مناخ اقتصادي ونفطي أقلّ هستيريّةً يحضن الحلّ السياسي، عبر زيادة مدروسة للإنتاج النفطي، تخفض مستويات الذعر في الأسواق العالمية وتضع ضغوطاً جدّيّة على اللاعبين جميعاً، ولا سيّما موسكو، لولوج طريق الحلّ السياسي.

لأجل ذلك قرّرت إدارة بايدن تجاوز كلّ التحفّظات التي تمسّك بها سيّد البيت الأبيض، وحاول إجراء حوار نفطي مع الرياض وأبوظبي. بل ذهب بعيداً في القفز فوق ما تدّعيه الإدارة الحالية من سياسة خارجية تقودها المثل والقيم، للحوار مع فنزويلا، ومحاولة عقد صفقات معها يبدو أنّها وصلت إلى طريق مسدود بسبب المزايدات القاتلة في الكونغرس على خيارات بايدن.

لكن وفي ذروة الحاجة الدولية إلى لاعبين كالإمارات والسعودية، قرّر قادة البلدين، بحسب تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال”، عدم الردّ على اتصالات الرئيس الأميركي جو بايدن، في تجسيد لواحدة من أخطر الأزمات في العلاقات الخليجية الأميركية.

وتلت ذلك لعبة الرسائل المتناقضة التي صدرت عمداً عن أبوظبي للقول لواشنطن إنّ في التسرّع في إحالة الشرق الأوسط على التقاعد وإهمال مصالح دوله الرئيسية الكثير من السذاجة التي على واشنطن التنبّه لها ولو بأكلاف عالية. بتصريح واحد ننزل الأسعار وبتصريح آخر نرفعها.

من الواضح أنّه ليس من مصلحة الدول النفطية الصعود بأسعار النفط إلى مستويات تؤدّي إلى موجات تضخّم في أسعار السلع والخدمات حول العالم، أو أن يستقرّ برميل النفط عند عتبات تدفع إلى خفض الطلب وإرباك المداخيل وتوازنات الحصص النفطية.

لا بديل كاملاً عن أميركا، لكنّ أميركا ما عادت تكفي وحدها. هذه هي المعادلة، التي يُعاد بناء مداميكها من رحم الحرب الروسية الأوكرانية

لكنّها أيضاً فرصة لدول المنطقة، ولو شديدة الخطورة والحساسية، لإعادة الاعتبار إلى العقلانية في التعامل الأميركي مع الشرق الأوسط بدل الشطط الأيديولوجي المتسرّع عند واشنطن، والذي يستسهل التعامل الصارم مع هذه العواصم، على قاعدة أنّ واشنطن لا تحتاج إلى التسويات على مبادئها بعدما تحرّرت من حاجتها إلى مغازلة حكّام الشرق الأوسط الذين تعتبرهم من أصحاب السلطات المطلقة وغير الديموقراطية.

في أبوظبي والرياض رغبة في تلقين واشنطن دروساً ضرورية يمكن بعدها بناء ما تيسّر من عوامل الثقة ولو بصعوبة. العاصمتان تتصرّفان لا على قاعدة العداء لأميركا، بل على قاعدة انتهاء عصر الهيمنة الأميركية، وما يتيحه من قدرة هائلة على تنويع الشراكات، وما يوفّره من هوامش للمناورة.

لا أحد هنا يخدع نفسه بنهاية الدور الأميركي الحاسم في حماية هذه الدول عبر علاقات اقتصادية وتسليحية أمنيّة وسياسية تمتدّ على عقود. ما انتهى في هذه العواصم هو الوهم بأنّ أميركا هي الضامن الوحيد لأمنها واستقرارها واستقرار محيطها أو النظام الإقليمي الذي تؤثّر وتتأثّر به.

لقد ذهبت أبوظبي إلى اتفاق السلام مع إسرائيل لخلق ميزان قوى ومصالح جديد في المنطقة يستمدّ أسباب ثباته من المصالح المشتركة في الإقليم لا من الحماية الأميركية حصراً. في السياق نفسه، قال وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مقابلته الأخيرة إنّ إسرائيل ليست عدوّاً بل حليف محتمل، وهو ما يشير إلى المزيد من القناعة بأنّ بنية الاستقرار تنبع من ديناميكية العلاقات بين دول المنطقة وترابط مصالحها أكثر منها من التمحور الحاسم في خندق واشنطن.

إقرأ أيضاً: درس أوكرانيا: مصالح لا مبادئ

لا بديل كاملاً عن أميركا، لكنّ أميركا ما عادت تكفي وحدها. هذه هي المعادلة، التي يُعاد بناء مداميكها من رحم الحرب الروسية الأوكرانية، ومكافحة السذاجة الليبرالية الغربية بوقائع الميدان والإعلام والبورصة وسلاح النفط وسلاح الموقف السياسي.

الشرق الأوسط مهمّ واستقرار مصالحه مرتبط باستقرار مصالح الأقربين والأبعدين، ومَن له أذنان سيسمع.

مواضيع ذات صلة

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…