درس أوكرانيا: مصالح لا مبادئ

مدة القراءة 6 د

“لا سياسة خارجية، فقط مصالح داخلية”.

“لا سياسة خارجية لأهداف محض خارجية، لكنّ كلّ السياسات تنبع من مصالح الداخل”. تلك كانت رؤية “مترنيخ” الذي اعتبره الدكتور هنري كيسنجر عبقرية فذّة في الرؤيا السياسية.

ما يحدث الآن من حروب وصراعات وعقوبات وتحالفات وانقسامات ومبادرات ومفاوضات ووساطات هو أصدق تعبير عن قيام كلّ الأطراف بخدمة مصالحها الوطنية الذاتية، حتّى لو ذهب الجميع إلى الجحيم.

من لا يفهم هذه الحقيقة المؤلمة سوف يقع في بئر من أوهام أكذوبة “المواقف المبدئية للقوى العظمى” أو أكذوبة “ضرورة احترام القانون الدولي” أو فيلم “محاولة تغيير دول ذات سيادة بالقوّة المسلّحة”.

ما يحدث الآن من حروب وصراعات وعقوبات وتحالفات وانقسامات ومبادرات ومفاوضات ووساطات هو أصدق تعبير عن قيام كلّ الأطراف بخدمة مصالحها الوطنية الذاتية، حتّى لو ذهب الجميع إلى الجحيم

الشعارات والمبادئ المنطلقة في الشهور الأخيرة صحيحة من ناحية المحتوى، لكنّها تُستخدم في غير محلّها، وهي حقّ يُراد به باطل.

في غزو أوكرانيا تبيّن لنا أنّ الجميع باع الجميع!

في غزو أوكرانيا أساء الجميع تقدير مواقف الآخرين، وأخطأ في قياس ردود أفعالهم.

في غزو أوكرانيا تبيّن لنا أنّ الكبار يستخدمون الصغار في ما يشبه “التمتّع بفتاة ساذجة لليلة واحدة”، ثمّ التخلّي عنها وإلقاءها على قارعة الطريق من دون رحمة أو تأنيب ضمير.

تعالوا نتأمّل القصة من بدايتها:

– “الغرب وعد الروس في خريف 1991 بأنّ الدول المحيطة بروسيا الاتحادية لن يتمّ ضمّها إلى أيّ تحالف غربي معادٍ، ومع ذلك لم تتوقّف الإغراءات الأوروبية بالضمّ”.

– “الروس وعدوا بعدم القيام بعمل عسكري في أوكرانيا، لكن قاموا عام 2014 بضمّ القرم”.

– وعدت مستشارة ألمانيا بوتين قبيل انتهاء ولايتها بأنّ خارطة أوروبا لن تتغيّر، لكنّ سكرتير حلف الناتو تحرّك من أجل تغييرها.

– أكّد بوتين أنّه لن يغزو أوكرانيا.

– أكّد الغرب أنّ بوتين سوف يغزو، وإذا قام بذلك فإنّ ردّ الفعل سيكون مدوّياً.

قام بوتين بالغزو ولم يكن الردّ مدوّياً.

– اعتقد بوتين بحساباته أنّ سقوط أوكرانيا سيكون بحرب خاطفة قصيرة، فإذا به يدخل حرب مدن طويلة.

– اعتقد الأميركيون أنّ بوتين لن يتحمّل العقوبات، فإذا به يحوِّل ضغوط العقوبات من ضغط عليه إلى آثار سلبية عليهم.

– اعتقد بوتين أنّ العقوبات لن تمسّ الطاقة، فإذا ببايدن وبولتون يستخدمانها ضدّه، فيصدر بيان عن الكرملين يقول: “لم نتوقّع قوّة العقوبات”.

– باعت إسرائيل الأميركيين حفاظاً على مصالحها مع الروس في سوريا وأهميّة الوزن التصويتي لليهود من أصل روسي في الحياة السياسية الإسرائيلية.

لعبت إيران دوراً انتهازياً في الحفاظ على مصالحها مع الروس، لكنّها أيضاً داعبت رغبات الغرب في رفع العقوبات حتّى تعود إلى ضخّ النفط والغاز في الأسواق، فتدخّلت موسكو في مفاوضات فيينا لعرقلتها؟

– أعلنت تركيا أنّها سوف تستخدم حقّها القانوني في اتفاقية “مونترو”، وتمنع مرور البوارج الحربية في مضيقيْ البوسفور والدردنيل، وقامت بوساطة ناجحة لاستضافة حوار بين وزيريْ خارجية روسيا وأوكرانيا في أنطاليا بمشاركة تركيّة فعّالة.

– أكّدت ألمانيا بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّها تدعم أوكرانيا، لكنّها لن تتوقّف عن استيراد الغاز من روسيا، ولا توافق على إقامة منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا.

– أكّدت وزيرة الخارجية البريطانية أنّها لا توافق على ما يؤدّي إلى مواجهة عسكرية بين الناتو والجيش أو السلاح الروسي.

– أكّد الأمين العام لحلف الناتو بشكل نهائي أنّ قيام منطقة حظر طيران فوق مسرح العمليات في أوكرانيا سوف يؤدّي إلى مواجهة مباشرة وخطرة مع الطائرات الروسية، وهو ما لا تريده الدول الأعضاء في الناتو.

– رفض البيت الأبيض العرض البولندي بإرسال طائرات “ميج 29” مجّاناً إلى أوكرانيا لأنّه يؤدّي إلى زيادة التصعيد العسكري.

– اتّهم الرئيس الأوكراني أوروبا والولايات المتحدة بأنّهما باعتا وتخلّتا عن أوكرانيا لأنّهما لم تنفّذا الحظر الجوي، ولم تتوقّفا عن استيراد الغاز والنفط من روسيا.

المسألة كلّها أنّ كلّ طرف اتّخذ موقفاً خاصّاً به لأسباب داخلية أو شعبوية أو ذاتية أو اقتصادية بعيدة تماماً “عن احترام القانون الدولي” أو عن “الدفاع عن مبادئ الحلف الأطلسي” أو “تثبيت أركان الشرعية الدولية”

المصالح قبل المبادىء

صدّقوني، المسألة كلّها أنّ كلّ طرف اتّخذ موقفاً خاصّاً به لأسباب داخلية أو شعبوية أو ذاتية أو اقتصادية بعيدة تماماً “عن احترام القانون الدولي” أو عن “الدفاع عن مبادئ الحلف الأطلسي” أو “تثبيت أركان الشرعية الدولية”.

تعالوا نتأمّل كيف يلعب الجميع اللعبة.

يضع الجميع المصلحة المباشرة فوق كلّ شيء وأيّ شيء.

تعريف المصلحة هنا هو كيف يخدم سلوك كلّ منهم أثناء هذه الأزمة العالمية في تدعيم أركان نظامه الداخلية.

لا يستطيع الألماني قطع الغاز حتى لا يؤثّر على الإنتاج الصناعي لأكبر دولة صناعية في الاتحاد الأوروبي.

يريد الرئيس الأميركي من خلال الأزمة أن يرفع شعبيّته المتدنّية ويصبح بطلاً قومياً على قاعدة أنّه الرئيس الأميركي الذي هزّ الدبّ الروسي من دون أن يطلق رصاصة واحدة.

لاحظ أنّه يصارع الآن من أجل عدم فقدان حزبه ما بين 60 إلى 70 مقعداً في الانتخابات التجديدية لمجلسيْ الشيوخ والنواب، وأنّه على بعد 35 شهراً من تجديد الرئاسة.

يعرض الفرنسي نفسه ليل نهار كوسيط ومتحدّث باسم الاتحاد الأوروبي والناتو مع بوتين، فيما انتخاباته على بعد أربعة أشهر سيتمّ حسمها في الدوائر الفرنسية، ويعاني من تضخّم متفلّت وعجز في الموازنة وغضب في قطاعات عديدة في الداخل الفرنسي.

أمّا في المجر التي أصدرت بيانات متشدّدة داعمة لأوكرانيا فإنّ الانتخابات على بعد أسابيع معدودات.

إقرأ أيضاً: أوكرانيا تعيد الكوكب إلى الفحم الحجري

الإمارات والسعودية، اللتان تشعران بعدم ارتياح إلى سياسة بايدن الخليجية وسعيه إلى الانسحاب الاستراتيجي من المنطقة، ثابتتان في كمية النفط التي تنتجانها وفي سياستهما النفطية في “أوبك بلاس”، مع مراعاة الشريك المهمّ، روسيا، في سياسات الإنتاج العالمي.

قالها ونستون تشرشل منذ سنوات بشكل بليغ ومعجز: “السياسة الخارجية الحقيقية هي تلك التي تنطلق فقط وبالدرجة الأولى من المصالح الداخلية”.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…