المواطن العربي له موقف تلقائي وسلبي تماماً من مصطلح “الحركة التصحيحية”، الذي كانت تلوذ به النظم ليس لتعديل مسارها الاستبدادي، وإنّما لتحسين إمكانيات سيطرتها على شعوبها ومقدَّراتها.
الحرب الأوكرانية ظهر فيها هذا المصطلح فعلاً، وفرض نفسه بقوّة على بعض أطراف هذه الحرب، وتحديداً على العلاقة بين أميركا ومن يُسمَّون بحلفائها أو تابعيها أو حتى أصدقائها.
الأكثر وضوحاً ومباشرةً في هذا الاتجاه، هي دول الخليج العربي، التي لم تتّخذ خطوات تلقائية وراء أميركا على الرغم من طلبها الصريح بذلك. وذلك على عكس التقديرات التي كانت بديهيّة من قبل الجانب الأميركي والقائمة على أساس معادلته النمطية التي تفترض التالي: “نأمر فتطيعون وبلا نقاش”.
ليست مقوّمات العلاقة بين أميركا وحلفائها أو تابعيها أو أصدقائها هامشيّةً أو ثانويةً، بل هي أساسية، وربّما أساسية في حياتهم على كلّ الصعد
هنالك مستوىً آخر أظهرته الحرب الإقليمية العسكرية والكونيّة الاقتصادية، وهو الموقف أو المواقف الأوروبية، التي تباينت في مجال تلقائيّة التبعيّة والولاء. فبينما ذهبت بريطانيا، كما هي على الدوام، ليس إلى الارتباط بالسياسة الأميركية فحسب، بل والمزايدة عليها، فإنّ باقي الدول الأوروبية، بما في ذلك الشرقية منها، قد اتّخذت مواقف تجاه الأوامر الأميركية، تشابه في العموميّات مبدأ العقوبات ودعم أوكرانيا والتحذير من خطر الحرب والتخوّف من ثقل الدبّ الروسي. إلا أنّه تحت هذا التشابه العامّ نشأت اختلافات ليست ثانوية بأيّ حال، بل هي في جانب منها أساسية، ومؤشّرها الأكثر وضوحاً هو النزوع الأوروبي نحو قدر أكبر من الاستقلال عن أميركا، وخصوصاً تهوّرها في الخصومات والحروب.
فها هي ألمانيا تعلن عن تحديث جيشها بكلفة أوّليّة تصل إلى مئة مليار يورو. أمّا فرنسا صاحبة الدعوات الأكثر وضوحاً، بل والمبكرة، إلى تقوية أوروبا من كلّ النواحي، فها هي تميّز نفسها في الأزمة الراهنة بدور الوسيط، وتظهر التمايز عن الخطط الأميركية التي قامت أساساً، كما قلنا، على نهج “نأمر فيطيعون”.
ليست مقوّمات العلاقة بين أميركا وحلفائها أو تابعيها أو أصدقائها هامشيّةً أو ثانويةً، بل هي أساسية، وربّما أساسية في حياتهم على كلّ الصعد، وهو ما يجعل الاستغناء أو الاستبدال أمرين يقتربان من المستحيل، وهنا ينبغي رؤية المتاح أو الأقلّ ضرراً في المعادلة.
خلق هوامش جديدة
أظهرت الأزمة الأوكرانية المساحة المعقولة لممارسة حركة تصحيحية غايتها ترشيد العلاقة بين الحلفاء والمركز الأميركي.
الخليجيون الذين نمت وتطوّرت مصالحهم الخاصة مع العالم الجديد، وكانت وما تزال روسيا والصين من أهمّ مجالات التبادل الاقتصادي معهم، لم تعد تناسبهم الطريقة الأميركية في التعامل. فالميزان من كلّ النواحي ليس عادلاً ولا حتى موضوعياً، ولا ينقص الخليجيّين قرائن دامغة على عدم التوازن الأميركي حدّ الخذلان.
أمّا أوروبا فقد سئمت طريقة التحالف المقترن بالتنافس، التي تصل في حالات عديدة حدّ التوريط والابتزاز. ومَن ينسى ردّ الفعل الفرنسي على صفقة الغوّاصات الأوسترالية التي لم تكن حتى من حيث الشكل تعبِّر عن سلوك حليف إزاء حليف، بل عن منافس سعى إلى الكسب على حساب الآخر.
كان إذعان أوروبا للأسقُف التي حدّدتها أميركا لها قد جعلها قوّة ثانوية في كلّ المعادلات الكونية، بل وعطّل دورها السياسي تماماً، وخصوصاً في الشرق الأوسط الذي يجسّد إحدى رئات التنفّس الأوروبي أمنيّاً واقتصادياً ومن كل النواحي.
إنّ تهميش أوروبا، التي قبلته بل وتواطأت فيه، جعل نفوذها الفعليّ في المعادلات الدولية أقلّ بكثير من حجمها الذاتي والموضوعي وحجم مصالحها.
لو انتظر الخليجيون والأوروبيون أن تقوم أميركا من تلقاء نفسها بتصحيح علاقاتها معهم نحو توازن مُرضٍ لهم لما كانوا حصدوا سوى الخيبة والخذلان. وما ينطبق على دول الخليج العربي وأوروبا ينطبق على كلّ مَن ارتبط مع أميركا بتحالف أو صداقة أو بعض أولويّات في التعامل.
إقرأ أيضاً: المتغطّي بالأمريكان عريان
ما هو ظاهر حتى الآن أنّ الحلفاء والأصدقاء يحاولون هذه المرّة، ويُفترض أن تؤتي هذه المحاولة أُكُلها بفعل قوّة الحاجة الأميركية إلى الأصدقاء والحلفاء، فهل تتعلّم أميركا المهووسة بإغواء القوّة هذا الدرس؟ أم تواصل الاعتقاد بأنّ مواقف الحلفاء والأصدقاء مجرّد تذمّر واحتجاج أوّلي قصير الأمد؟
لو استمرّت في هذا الاعتقاد وواصلت بناء سياساتها عليه فمفاجآت الحرب الأوكرانية ستولّد مفاجآت أفدح في ما سيأتي وسنرى.