بدأت الحرب الروسية – الأوكرانية في تغيير حالة العالم وليس النظام العالمي فقط. لقد وضعت كلّ من روسيا والولايات المتحدة سلاحهما النووي في حالة استنفار. وذلك للمرّة الأولى منذ أزمة خليج الخنازير في كوبا في عهد الرئيسين السابقين الأميركي جون كينيدي والسوفياتي نيكيتا خروتشوف.
يعرف الرئيسان الحاليان جون بايدن وفلاديمير بوتين ماذا يعني الصدام النووي. ولكنّ المعرفة وحدها لا تشكّل قوّة ردع. تتشكّل قوة الردع من توافر قاعدة للمساومة بين الطرفين كما حدث في السابق. غير أنّ هذه القاعدة لم تتبلور حتى الآن. وهو ما يحمل العالم كلّه على وضع يده على قلبه خوفاً من أيّ خطأ في الحساب نتيجة موقف ما أو نتيجة خطأ ما في ترجمة تصريح يصدر من هنا أو من هناك.
لعبة عضّ الأصابع مستمرّة. غير أنّ صرخة الألم لم تنطلق لا من موسكو ولا من واشنطن، لكنّها تدوّي الآن في كلّ زوايا العالم.
الأزمة الأوكرانية أدّت إلى خلق أزمة طاقة على المستوى العالمي. تمثّل ذلك في ارتفاع الأسعار وتوقّف ضخّ النفط والغاز من روسيا إلى أوروبا
اشتغلت الدول والمؤسسات الدولية عقوداً طويلة من أجل كبح جماح ارتفاع حرارة الأرض بسبب الاحتباس الحراري، الذي يهدّد أشكال الحياة على الكرة الأرضية.
حذّر العلماء وتجاوب السياسيون وعُقدت مؤتمرات دولية عديدة لوضع آليّة لإنقاذ الحياة على الكوكب، تقوم على قاعدة خفض انبعاث الغازات من استهلاك النفط والغاز، وخاصة من الفحم الحجري (أسوأ وأخطر مصادر الطاقة على صحّة الإنسان وعلى صحّة الكرة الأرضية).
الفحم الحجري والنفط
غير أنّ الأزمة الأوكرانية أدّت إلى خلق أزمة طاقة على المستوى العالمي. تمثّل ذلك في ارتفاع الأسعار وتوقّف ضخّ النفط والغاز من روسيا إلى أوروبا. وتعثّرت الإمدادات إلى آسيا وأميركا الجنوبية. لم يؤدِّ ذلك إلى ارتفاع الأسعار فقط، بل أدّى إلى ما هو أخطر وأسوأ، إلى العودة إلى إنتاج الطاقة من الفحم الحجري الملوِّث رقم واحد للبيئة.
تحمِّل الدراسات العلمية الفحم الحجري المسؤوليّة الأولى عن ارتفاع حرارة الكرة الأرضية، وذوبان الثلوج القطبية، وارتفاع منسوب مياه البحار والمحيطات، وحدوث موجات الفيضانات والأعاصير، وغرق مساحات واسعة من أراضي الدول الساحلية.
يتحمّل الفحم الحجري وحده ثلث المسؤوليّة عن هذه الكوارث التي تضرب المجتمعات البشرية. لذلك اعتمدت التوصيات الدولية التوقّف عن استخدامه، وخفض استخدام الطاقة المنتَجة من الغاز والنفط، والاعتماد على مصادر الطاقة الطبيعية (الشمس والرياح والطاقة النووية). ووُقِّعت معاهدات دولية لبرمجة التحوّل والانتقال. لكن فجأة تنفجر أزمة أوكرانيا، وترتفع أسعار المحروقات النفطية، وتعود الدول (مضطرّة؟) إلى الفحم الحجري من جديد، الأمر الذي يشكّل أسوأ وأخطر تداعيات هذه الحرب حتى الآن. ونقول حتى الآن، لأنّه يُخشى أن يكون الآتي أشدّ سوءاً وأكثر خطراً.
تستهلك آسيا وحدها 75 في المئة من الفحم الحجري في العالم، وتستهلك الصين نصف هذه الكميّة. وفي الهند ارتفعت نسبة استهلاك الفحم 9 في المئة، وارتفعت هذه النسبة حتى في فيتنام التي تتحوّل إلى دولة صناعية بعدما تحرّرت من الاحتلال الأميركي. ومن شأن ذلك أن يؤدّي إلى ارتفاع حرارة جوّ الكرة الأرضية خلافاً لِما قرّرته دول العالم في مؤتمرات البيئة التي عقدتها حتى الآن.
كان العلماء يطالبون بإغلاق كامل لمناجم الفحم في العالم في حدود عام 2050. إلّا أنّ ما يحدث الآن هو على العكس تماماً. فالعالم بعد أزمة أوكرانيا، وانطلاقاً منها، يتحوّل أكثر فأكثر نحو الفحم الحجري مصدراً للطاقة بعد ارتفاع أسعار النفط نتيجة هذه الأزمة.
في المحصّلة تعود مناجم الفحم إلى العمل والإنتاج على نطاق واسع، وهو أمر ستجد الإنسانيّة نفسها مضطرّة إلى دفع ثمنه غالياً جدّاً من خلال المزيد من الاحتباس الحراري، والمزيد من الفيضانات والأعاصير، والمزيد من ارتفاع سطح البحر الذي سيهدّد مدناً ساحلية في القارّات الخمس بالغرق في مياه البحار.
إقرأ أيضاً: جذور النظام العالمي الجديد
تموّل الصين وحدها مشاريع بقيمة 9.5 مليارات دولار لإنتاج الفحم في العالم، وخاصة في إفريقيا. كذلك اليابان وكوريا الجنوبية. كانت الحماسة لتمويل مثل هذه المشاريع قد تراجعت كثيراً. إلّا أنّه بعد الأزمة التي ولّدتها الحرب في أوكرانيا، قُلبَ الأمر رأساً على عقب، فالاقتصاد الصناعي لا يتحمّل أسعار النفط المرتفعة، بل يحتاج إلى مصدر للطاقة منخفض السعر نسبيّاً ويكون في متناول اليد. ويشكّل الفحم الحجري الأسود اليوم الضّالّة المنشودة. أمّا نتائجه على البيئة فهذا أمر آخر متروك للمستقبل!!
والمستقبل في كفّ الاستنفار النووي بين روسيا والولايات المتحدة.