سرّ جزيرة التتار المسلمين “القرم”: إنّها المياه..

مدة القراءة 7 د

سيجلس الجميع إلى الطاولة في النهاية للبحث عن حلّ للحرب في أوكرانيا، إلا أنّ بنداً وحيداً لا يبدو أنّ روسيا وقيصرها الجديد فلاديمير بوتين مستعدّون للتنازل عنه، وهو ضمّ جزيرة القرم إلى روسيا.

تحتلّ شبه جزيرة القرم حيّزاً بالغ الأهميّة في مفهوم الأمن القومي لدى موسكو، حتى إنّ أهميّتها تتقدّم على إقليميْ “لوغانسك” و”دونيتسك”. فما سرّ هذا الاهتمام الروسي الكبير بالقرم؟ وهل يتنازل العالم ومعه أوكرانيا عن هذه الجزيرة لوقف الحرب؟

سيجلس الجميع إلى الطاولة في النهاية للبحث عن حلّ للحرب في أوكرانيا، إلا أنّ بنداً وحيداً لا يبدو أنّ روسيا وقيصرها الجديد فلاديمير بوتين مستعدّون للتنازل عنه، وهو ضمّ جزيرة القرم إلى روسيا

حصن القياصرة

القرم، التي تعني القلعة أو الحصن، هي إقليم يقع إلى الجنوب من أوكرانيا، ويمتدّ بين البحر الأسود وبحر آزوف، ويفصله عن روسيا مضيق “كيرتش”. ويحظى هذا الإقليم بأهميّة تاريخية عظيمة لدى الروس، فمنذ قديم الزمان والقياصرة الروس على قناعة بأنّ من يحكم القرم يحكم البحر الأسود بأسره.

عام 1783 نجحت “كاترين الثانية” ملكة روسيا العظيمة في هزيمة العثمانيين وضمّ القرم إلى الإمبراطورية الكبيرة، بعدما بقيت أربعة قرون تحت حكم خانات التّتار المرتبطين اسمياً بسلاطين آل عثمان. ومذّاك سعى القياصرة الروس إلى محو هويّة القرم، وتغيير تركيبته الديموغرافية.

شجّعت الملكة كاترين انتقال الروس إلى شبه الجزيرة، ومنحتهم أراضي المسلمين، الأمر الذي أدّى إلى أوّل موجة هجرة للتّتار. واستمرّت الهجرة بعد ذلك في محطّات كثيرة، حتى تناقص عدد التّتار من نحو 6 ملايين مع غزو الملكة كاترين، إلى نحو 300 ألف مع اندلاع الثورة البلشفية.

في عام 1927، جمع ستالين نحو 40 ألفاً من التّتار وأرسلهم إلى معسكرات العمل القسري في سيبيريا. ثمّ في 18 أيار 1944 أمر ستالين بعمليّات تطهير وحشيّ لنحو ربع مليون تتاريّ، تمّ ترحليهم إلى آسيا الوسطى وأوزبكستان، عبر تكديسهم في عربات قطارات الماشية والبضائع، فمات نصفهم في الطريق بسبب المرض والجوع.

لم يُسمحْ للتّتار بالعودة إلى وطنهم الأصليّ إلا في أواخر العام 1989، لكنْ من دون أيّ تعويضات عن الأراضي التي فقدوها، ولم يتمّ اتّخاذ أيّ إجراءات قانونية بحقّ مرتكبي عمليات التطهير العرقي.

عودة التطهير العرقيّ

في خطابه الذي أطلق خلال العملية العسكرية، تحدّث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن قيام النخبة الأوكرانية الحاكمة بتطهير البلاد من الروس، عبر عمليّات الصّهر القسري واتّخاذ القرارات العنصرية، واستبعاد اللغة الروسية من المؤسسات التعليمية، وتطبيق عقوبات على المواطنين الروس وعلى مؤسّساتهم، وصولاً إلى نوّابهم في البرلمان.

بيد أنّ التدقيق قليلاً في حال القرم بعد سلْخه عن أوكرانيا يُبيّن أنّ روسيا هي مَن قامت بما تحدّث عنه بوتين بحقّ المسلمين بالدرجة الأولى، إذ إنّها حطّمت حياة 250 ألفاً من مسلمي تتار القرم، وحرمتهم من العمل، ومن لغتهم، وحظرت كتبهم الدينية وصحفهم وطريقة حياتهم لدفعهم نحو الرحيل الأبدي. وفي كلّ عام يُمنَع تتار القرم من التجمّع في الساحات لإحياء ذكرى ترحيلهم في 18 أيار، وتبرّر السلطات الروسية ذلك بخطورة “الوضع المتوتّر بين القوميّات”.

كان بوتين سبق أنْ وصف القرم بـ”المكان المقدّس”، في خطاب أعقب توقيع معاهدة ضمّ القرم. إلّا أنّ هذا المكان المقدّس أوشك على التصحّر خلال السنوات الفائتة

يقول إسكندر بارييف رئيس “مركز موارد القرم” إنّه تمّ تسجيل أكثر من 35 ألف نازح عن القرم منذ بسطت روسيا سيطرتها عليها. علماً أنّ الأعداد الحقيقية أكبر من ذلك بنحو ثلاثة أضعاف. لأنّ الكثيرين لم يسجّلوا أنفسهم نازحين، بالإضافة إلى عشرات الآلاف الذين غادروا البلاد.

وتقول غيانا يوكسيل عضو “مجلس تتار القرم” إنّ الإحصاءات تؤكّد توطين روسيا نحو 800 ألف روسي في القرم، وتؤكّد يوكسيل أيضاً توثيق 1000 عملية مداهمة روسية استهدفت بيوتاً ومساجد قرميّة أثريّة، مع ما صاحبها من اتّهامات وشتائم عنصرية.

من المؤسف أنّ الغرب ومؤسّساته التي أُنشِئت للدفاع عن حقوق الإنسان وقفت موقف المتفرّج إزاء التطهير العرقي والثقافي لتتار القرم، في حين أنّها تتباكى اليوم على حال الشعب الأوكراني.

عطش المكان المقدّس

يذكر بوتين أيضاً في خطاب ساعة الصفر أنّ الزعيم السوفياتي السابق نيكيتا خروتشوف، منح القرم لأوكرانيا لـ”سببٍ ما”. هذا السبب يتحدّث عنه الكاتب والمحلّل السياسي الأوكراني أوليكساندر بالي قائلاً إنّ “الحاجة إلى المياه العذبة، وغياب الطرق البريّة والحديديّة المؤدّية إليها بغرض الإمداد إلا من خلال أوكرانيا هي الأسباب الرئيسية التي دفعت خروتشوف إلى نقل القرم إداريّاً إلى أوكرانيا عام 1954، وليس بهدف تعزيز الوحدة بين الروس والأوكرانيّين”.

كان بوتين سبق أنْ وصف القرم بـ”المكان المقدّس”، في خطاب أعقب توقيع معاهدة ضمّ القرم. إلّا أنّ هذا المكان المقدّس أوشك على التصحّر خلال السنوات الفائتة، وهو ما يؤكّد صحّة الكلام أعلاه.

فقد كانت شبه جزيرة القرم تحصل على 85% من المياه العذبة عبر قناة الشمال التي تحمل إليها جزءاً من مياه نهر الدنيبر. وردّاً على ضمّ روسيا القرم، قامت الحكومة الأوكرانية ببناء سدّ على “قناة شمال القرم”، قاطعةً ما يقرب من 90% من المياه العذبة عن المنطقة، جاعلةً أهلها يعيشون شُحّاً في المياه. فاقتصرت التغذية بالمياه في مدينة “سيمفروبول” عاصمة القرم على 6 ساعات يومياً فقط، وهو ما دفع بعض المنتجعات والفنادق إلى إنشاء محطات خاصة لتحلية مياه البحر.

تكبّد قطاع الزراعة وفق إحصاءات رسمية خسائر ناهزت 2.7 مليار دولار، وتقلّصت مساحة الأراضي الصالحة للزراعة من 130 ألف هكتار عام 2013 إلى 14 ألف هكتار عام 2017، أي خلال 3 سنوات فقط من ضمّ القرم إلى روسيا.

من جانب آخر، بلغت تكلفة دعم القرم خلال السنوات الخمس الأولى 1.5 تريليون روبل روسي (حوالي 20 مليار دولار). وقد تكبّدت موسكو ما يناهز 1.42 مليار دولار لدعم القرم في عام 2021 فقط، بما يشكّل 68% من ميزانية الإقليم مقابل 32% من عوائد ضريبية. بذلك تفوق حصة القرم في الموازنة نصيب الأقاليم الجنوبية من الدعم الفيدرالي الروسي، متقدّمة بذلك على الشيشان وداغستان شمال القوقاز.

بالإضافة إلى ذلك، قامت الحكومة الروسية ببناء أطول جسر في أوروبا يربط القرم بمدينة “كراسنودار كراي” الروسيّة، ويمرّ فوق مضيق “كيرتش”، من أجل إيجاد منفذ برّيّ للقرم بعد إقفال المنافذ البرّية التي تربط شبه الجزيرة بالأراضي الأوكرانية. جسر بلغ طوله 19 كلم، افتتحه بوتين عام 2018، وبلغت تكلفته نحو 7 مليارات دولار.

عودة شريان الحياة

يُبيّن هذا السخاء الروسي غير المعهود مدى أهميّة القرم لدى بوتين، باعتبارها قاعدة “الحلم القيصري”. إلا أنّ مشكلة المياه بقيت تنغّص هذا الحلم. لذلك كان المحلّلون في مراكز الدراسات يتوقّعون منذ أشهر أن تقوم روسيا بعملية عسكرية للوصول إلى القناة التي تنطلق من مدينة خيرسون شمالي القرم.

وهو ما فعلته القوات الروسية التي تمكّنت من السيطرة على مدينة خيرسون ليل الأربعاء – الخميس الماضي بعد معارك ضارية. ثمّ قامت بعد ذلك بتدمير السد الذي أقامته الحكومة الأوكرانية على نهر الدنيبر، ووثّقت العملية بفيديو قامت بنشره على مواقع التواصل الاجتماعي.

بمنحه شبه جزيرة القرم شريان الحياة فإنّ بوتين يكون قد حقّق واحداً من أهداف الحملة العسكرية على أوكرانيا، وطوّب نفسه حاكماً على البحر الأسود. وبعدما حقّق حلم بطرس الأكبر في أن يكون لروسيا موطئ قدم في المياه الدافئة (المتوسط)، ها هو يخطو خطوة جديدة نحو الإمبراطورية الروسية الجديدة وإنشاء نظام عالم “ما بعد الغرب”.

إقرأ أيضاً: الحرب في قلب أوروبا… بوتين أمام التحدّي الأصعب

مواضيع ذات صلة

هل يستبدِل برّي حليفه فرنجيّة بأزعور؟

يدور الاستحقاق الرئاسي في حلقة مُفرغة، أحد أبرز عناصر كَسرِها التوصّل داخلياً إلى تسوية تَمنع الثنائي الشيعي من أن يكون في جلسة التاسع من كانون…

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…