الحرب في قلب أوروبا… بوتين أمام التحدّي الأصعب

مدة القراءة 7 د

أثناء التغطية المباشرة التي تجريها صحيفة “لوموند” الفرنسية للاجتياح الروسي لأوكرانيا، تسأل امرأةٌ مقيمةٌ في فرنسا مراسلَ الجريدة هل ينصحها بإتمام زيارتها المقرّرة لبولندا لقضاء عطلة نهاية الأسبوع أم لا؟

للوهلة الأولى يبدو هذا السؤال غريباً في عزّ التطوّرات العسكرية، السياسيّة والاقتصادية المتّصلة بالحدث الأوكراني. لكن في الواقع ليس من السهل على الأوروبيين أن يقتنعوا بضرورة تقييد حركتهم، ليس بسبب كوفيد – 19 هذه المرّة، بل بسبب الحرب!

نعم الحرب الآن ليست في الشرق الأوسط أو في أيّ مكان آخر، بل في قلب أوروبا. وهذا أمرٌ يصعُب على الأوروبيين تقبّله بعدما اعتقدوا أنّ “السلام الأوروبي” (pax europaea) أصبح حتميّة تاريخية بعد التجارب القاسية التي عرفتها أوروبا في القرن الماضي خلال الحربين العالميّتين الأولى والثانية، خصوصاً أنّ الغزو الروسي لأوكرانيا أعاد وضع الأسلحة النووية في قلب التحدّيات الأمنيّة للعالم المعاصر.

أولى نتائج الغزو الروسي لأوكرانيا أنّه أعاد النظر في نهائيّة الاعتقاد الآخذ في التوسّع والقائل إنّ العالم قاب قوسين أو أدنى من ولادة نظام دولي جديد

في هذا السياق ليس قليل الدلالة اتّهام الأمين العامّ لحلف شمال الأطلسي روسيا، الثلاثاء، بأنّها تدمّر السلام في أوروبا، في وقت تجنّبت الأدبيّات الرسمية الروسيّة وصف الهجوم على أوكرانيا بالحرب. فمنذ البداية قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنّ بلاده في صدد “عملية عسكرية خاصة” في أوكرانيا، أي أنّ موسكو تسعى إلى تصوير نفسِها في موقع دفاعي أمام التهديدات الغربية لأمنها القومي في مجالها الجيوستراتيجي الحيويّ.

أيّاً يكن من أمر، فإنّ أوروبا دخلت “عصراً جديداً”، بحسب تعبير المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز. ولعلّ التحوّل الاستراتيجي في السياسة الدفاعية الألمانية المتمثّل في زيادة إنفاقها العسكري إلى أكثر من 2% من ناتجها المحلّي وتزويد أوكرانيا بالأسلحة هو أسطع دليل على ذلك.

وقد دفع هذا التحوّل الألماني دولاً أوروبية أخرى، كفنلندا التي تلتزم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بالحياد العسكري، والنروج التي تلتزم منذ 1950 بعدم تزويد أيّ بلد خارج “الناتو” بالأسلحة، إلى الحذو حذو ألمانيا وإرسال السلاح إلى أوكرانيا. هذا فضلاً عن أنّ سويسرا التي تعتمد حياداً دوليّاً نموذجيّاً ستلتزم بتطبيق العقوبات الغربية على روسيا.

 

الغرف من حروف الذاكرة

كلّ ذلك يجعل الغزو الروسي لأوكرانيا محمّلاً بأعباء التاريخ وتحدّيات الحاضر. وهو أمر تعكسه بقوّة السرديّة الروسية لاجتياح أوكرانيا، التي تغرف من “حروب الذاكرة” بين البلدين وتلخّص النزوع الروسيّ للردّ على “إهانة” الغرب لموسكو بعد سقوط جدار برلين، وتركّز على الاعتبارات الاستراتيجيّة لروسيا، وتحديداً لناحية مخاوفها من استمرار توسّع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في الشرق الأوروبي وضمّه المزيد من الجمهوريّات السوفياتيّة السابقة بعد ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا. وهذا في ظلّ سعي نظام الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي إلى “أوربة” و”أطلسة” بلاده. مع العلم أنّ فرنسا وألمانيا كانتا قد رفضتا في العام 2008 انضمام كييف إلى “الناتو”.

لكن في المقابل لا يُخفي بوتين مساعيه إلى خلق منطقة نفوذ روسيّة في دول الاتحاد السوفياتي السابق. واستراتيجية بوتين هذه لا تنفيها مقولته إنّ “من لم يحزن على انهيار الاتحاد السوفياتي فهو بلا قلب، ومن يفكّر في عودته فهو بلا عقل”. فهو كان اعتبر أيضاً أنّ تفكّك الاتحاد السوفياتي كان بمنزلة “خطأ استراتيجي”، وإن كان يستند في مشروعه الجيوستراتيجي على “أيديولوجيا” قوميّة وليس على حنين سوفياتي.

تباطؤ موسكو في تحقيق أهداف “العملية العسكرية الخاصّة” في أوكرانيا يضعها حتّى الآن في موقع إرباك وضعف، وخصوصاً في ظلّ الضربات الموجعة التي تلقّاها الجيش الروسي هناك

كلّ ذلك يجعل من المستحيل مقاربة “المسألة الأوكرانية” وفق المعيار الأخلاقوي الذي يقسِم العالم بين معسكريْ الشرّ والخير، والذي تحفل به الأدبيّات الأميركية. والأولى التعاطي مع هذه الأزمة بأبعادها الجيوسياسية بوصفها محطّة فاصلة في مسار النظام العالمي بعد انتهاء الحرب الباردة، ولا سيّما أنّ كلّ اللاعبين الدوليّين الكبار منخرطون فيها، سواء الغرب الأوروبي والأميركي أو روسيا أو الصين.

ولعلّ أولى نتائج الغزو الروسي لأوكرانيا أنّه أعاد النظر في نهائيّة الاعتقاد الآخذ في التوسّع والقائل إنّ العالم قاب قوسين أو أدنى من ولادة نظام دولي جديد متعدّد الأقطاب على أنقاض النظام الدولي الأحادي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية الذي قام بعد سقوط جدار برلين.

 

التفوّق العربي

صحيح أنّ الأزمة الأوكرانية الراهنة تعكس متغيّرات رئيسية في النظام الدولي، وفي مقدَّمها التقارب الصيني – الروسي. لكنّ الصحيح أكثر أنّ سرعة الردّ الغربي على الغزو الروسي، سواء لجهة تقديمه دعماً عسكريّاً متزايداً ومتواصلاً لأوكرانيا، أو فرضه عقوبات قاسية جداً على القطاع الماليّ الروسي بهدف تدمير الاقتصاد الروسي، كما قال وزير المال الفرنسي برونو لومير الثلاثاء، أظهرت من جديد التفوّق الاستراتيجي الغربي في خريطة موازين القوى الدولية، ولا سيّما أنّ الصين لم تغادر كلّيّاً تحفّظها الاستراتيجي. فهي وإن امتنعت عن إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، لكنّها دعت في المقابل إلى تجنّب العودة إلى الحرب الباردة، وإلى إيجاد حلّ دبلوماسي للأزمة، كما دعا وزير خارجيّتها في اتصال مع نظيره الأوكراني.

في المقابل فإنّ تباطؤ موسكو في تحقيق أهداف “العملية العسكرية الخاصّة” في أوكرانيا يضعها حتّى الآن في موقع إرباك وضعف، وخصوصاً في ظلّ الضربات الموجعة التي تلقّاها الجيش الروسي هناك. فكلّما طال أمد النزاع وتأخّرت موسكو في تحقيق أهدافها من الغزو، ولا سيّما إسقاط حكم الرئيس زيلنسكي، ظهر أكثر حجم الهوّة بين صورة القوّة التي يحاول الرئيس بوتين تقديمها عن نظامه، وبين القدرات العسكرية والسياسيّة والاقتصادية لهذا النظام في مقياس موازين القوى العالمية.

إذّاك ستكون الأزمة الأوكرانية المحكّ لكلّ المكتسبات الجيوسياسيّة التي حقّقها بوتين في السنوات الماضية، سواء في عدد من جمهوريّات الكتلة السوفياتية أو في سوريا. ولا شكّ أنّ توحّد الغرب بسرعة قياسية ضدّ موسكو كان عاملاً مفاجئاً لها، والأهمّ أنّه يؤسّس لمنهجيّة غربية جديدة في التعامل معها، بعدما كان الملفّ الروسي عنوان تباين داخل الاتحاد الأوروبي، وبين الاتحاد الأوروبي وأميركا. فخلال زيارته لأوروبا في حزيران الماضي حاول الرئيس جو بايدن جذب الدول الأوروبية إلى أولويّته في مواجهة الصين، فيما كان التركيز الأوروبي على مواجهة التهديدات الروسيّة. لكنّ الغزو الروسي لأوكرانيا بدّد هذا التباين الأوروبي – الأميركي أو بالحدّ الأدنى قلّصه، فيما لا تضمن موسكو أن يمكّنها تحالفها مع الصين والهند من الالتفاف على العقوبات الغربية الجديدة المفروضة عليها التي لا تُقارن من حيث قوّتها وتبعاتها على الاقتصاد الروسي بالعقوبات التي فُرضت عليها بعد ضمّها شبه حزيرة القرم في العام 2014.

إقرأ أيضاً: “الحياد” الأوكرانيّ على طاولة بوتين

وهذا تحدٍّ أساسيّ أمام الرئيس بوتين أيّاً تكن سيناريوهات حربه الجديدة في أوكرانيا. وقد يتوقّف مستقبله السياسي على نجاحه أو فشله في اجتيازه.

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…