بوتين الأوكراني: البحث اليائس عن قضيّة

مدة القراءة 5 د

مَن كان مراهقاً في عمر الخامسة عشرة أوائل التسعينيّات، شهد نهاية الاتحاد السوفياتي في روسيا، وتأمّل “فرحة” على منوال شعوب أوروبا الشرقية الأخرى، بانهيار أنظمة الاستبداد. فرحة عبّر عنها الشعب الروسي، ولا سيّما الشرائح الشابّة منه.

كما ذلك المراهق، فإنّ جيلاً مذّاك الوقت، يراوح عمر أبنائه هذه الأيام بين 45 و50 عاماً وما  دون، إمّا كان سعيداً باندثار النظام القديم أو لم يذكره أبداً أو لم يعرفه بتاتاً، وهو ابن الحقبة التي تلته.

الرئيس الروسي ينهل من مستنقع الحرب العالمية الثانية القديم حين قام تحالف دولي كانت روسيا السوفياتية أحد أطرافه للقضاء على النازية التي بشّر بها الزعيم لألماني النازي أدولف هتلر

على النقيض من ذلك تماماً فإنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو ابن الحقبة السوفياتية وربيب أجهزتها الأمنيّة وواحد من الفاعلين داخل منظومة الأمن التي كانت تابعة لنظام الحكم في موسكو آنذاك. وفي سياق النقيض أيضاً فإنّ سيّد الكرملين ينطلق في عقائده واستراتيجيّاته من ظروف وأدوات ذلك الزمان، فيما شريحة وازنة من الشعب الروسي، ولا سيما جيل الأربعين والأصغر عمراً، لا تنطلق من ظروف أضحت من الماضي ولا يهمّها أن تستعين بأدواته.

في تلك المفارقة يكمن مأزق روسيا الراهن منذ إطلاق بوتين “عملية عسكرية” في أوكرانيا. وداخل ذلك الفصام بين رأس السلطة والفضاء الشعبي الحالي يظهر الارتياب والارتباك والحيرة في إخراج أسباب بإمكانها اجتراح “قضية” عادلة تجتمع حولها “الأمّة” للدفاع عن وجودها ووجوديّتها.

لم يكن الرئيس الروسي يحتاج إلى ابتكار حجج معقّدة لتبرير تدخّل روسيا العسكري في جورجيا عام 2008، وشبه جزيرة القرم عام 2014، وسوريا عام 2015. ولم يكن الروس أساساً معنيّين كثيراً بإبداء رأي في أحد شؤون الدولة وفي قرار زعيمها. خصوصاً إذا كانت الأمور تجري من دون أن تتسبّب بأزمات أمن واقتصاد في داخل روسيا، ومن دون أن تثير خلافاً مع العواصم الكبرى يتجاوز سقف المماحكات التقليدية والعقوبات المحدودة. غير أنّ أمر أوكرانيا فرض على بوتين البحث عن قضية خلّاقة بالإمكان تسويقها.

أوكرانيا ليست سوريا وجورجيا

وحده الرئيس الروسي، وربّما دائرة قيادة البلد الضيّقة من حوله، مَن كان يعرف أنّ حرب أوكرانيا ليست “عملية عسكرية” محدودة كتلك التي نفّذها في مناطق خارج روسيا قبل ذلك. فمَن يعيد قراءة الخطاب الذي أعلن بوتين في نهايته بدء العمليات العسكرية في أوكرانيا سيكتشف أنّ الرجل أقام قراره على تصغير لمعنى وجود أوكرانيا وعَرَضيّة كيانها مقارنة بعظمة روسيا وأمجادها العتيقة.

في المقابل، فإنّ أجيال روسيا ما بعد التسعينيّات لم يفهموا نهل رئيسهم من زاد سوفياتي كانوا فرحين برحيله، أو من زاد قيصري هو من ماضٍ لا يعرفونه إلا في كتب التاريخ. وهنا تكمن معضلة رجل لا يغادر التاريخ ولا يقيم وزناً للحاضر وقيمه وأدواته.

حتّى في سعي الرئيس الروسي إلى التهويل بأخطار أوكرانيا على أمن روسيا والروس، فهو لم يحمل كشفاً مقنعاً بإمكانه إقناع جيل الحاضر بما خبروه وعرفوه وعلى اطّلاع يوميّ به عن أوكرانيا بلداً وشعباً وحكومات وأحزاباً.

 أجيال روسيا ما بعد التسعينيّات لم يفهموا نهل رئيسهم من زاد سوفياتي كانوا فرحين برحيله، أو من زاد قيصري هو من ماضٍ لا يعرفونه إلا في كتب التاريخ. وهنا تكمن معضلة رجل لا يغادر التاريخ ولا يقيم وزناً للحاضر وقيمه وأدواته

ولئن باشرت الماكينات الروسية السياسية والإعلامية بالتحذير من سلاح نووي في أوكرانيا، بدا ذلك خفيفاً متعثّراً، خصوصاً أنّ الحدث ذكّر القاصي والداني بما فرضته مذكّرة بودابست عام 1994 على أوكرانيا من سحب كامل للترسانة النووية مقابل ضمانات دولية روسيّة تمّ التعهّد بها لحماية أمن البلد. والأدهى أنّ الرواية الرسمية تسعى في زمن الشفافيّة الإعلامية المفرطة وثورة الإعلام الاجتماعي إلى الادّعاء برواية حصريّة لا يدركها الروس.

ولئن لم يقتنع الروس بالخطر النووي الذي يمثّله الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي وفريقه الحكومي على الأمن الاستراتيجي لثاني أكبر قوّة عسكرية نووية في العالم، فإنّ بوتين قاد على رأس مؤسّسات الأمن والدبلوماسية والإعلام تصويب بوصلة “القضية” نحو الهدف السامي المتمثّل بالتصدّي للنازيّين الجدد. وفي معرض تسليط المجهر على هذه المسألة راح بوتين يبيع الروس بطولات جيشه وبسالته في معارك التطوّع لردّ العنصرية التي يمارسها “النازيون” في أوكرانيا ضدّ الجاليات الهندية والصينية والإفريقيّة.. إلخ، بعدما استتبّ لقواته الدفاع عن الناطقين بالروسيّة في إقليم دونباس شرق البلاد.

هتلر وبوتين

الحال أنّ الرئيس الروسي ينهل من مستنقع الحرب العالمية الثانية القديم حين قام تحالف دولي كانت روسيا السوفياتية أحد أطرافه للقضاء على النازية التي بشّر بها الزعيم لألماني النازي أدولف هتلر. لكنّ تلك النازيّة قد ولّت وإن كان لها في العالم هوامش نوستالجيا، وقضت الحرب على هتلر، ولم تعد النازية هذه الأيام خطراً يستحقّ حرباً عالمية ثالثة. فالنازية بالنسبة إلى روس هذه الأيام هي من التاريخ ولا يمكن أن تكون عاملاً تتوحّد الأمّة لمكافحته.

من حقّ بوتين أن يعمل على تعظيم مكانة بلاده، وربّما من حقّه أن يحلم باستعادة أمجادها. قد يجول في خلد حاكم في بريطانيا أن يعيد لها أمجاداً حين كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس. والأمر يجوز للعرب والإسبان والبرتغاليين والأتراك.. إلخ، وكلّ من سجّل مجداً في غابر الزمان. لكنّ المعضلة تكمن في إمكانات ذلك ومشروعيّته وحكمته هذه الأيام. والخوف كلّ الخوف ممّن غادر هذا الزمان تاركاً شعبه في الحاضر وراح ينفخ أسباباً وعوامل وحوافز وعُدّة آتية من التاريخ الذي لا يعود ولا يتكرّر.

إقرأ أيضاً: بوتين يوقظ المارد الألمانيّ

في خطاب الرئيس الفرنسي إلى الفرنسيين قبل أيام، قال إيمانويل ماكرون إنّ حدث أوكرانيا يعلن للعالم تغيُّر حقبة.

ربّما تكون المشكلة في أنّ بوتين لم يغادر حقبة الاتحاد السوفياتي ولم يطوِ صفحتها.

*كاتب لبناني مقيم في لندن

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…