أوكرانيا: أبعد من الحلف الأطلسيّ

مدة القراءة 5 د

ليست أوكرانيا عضواً في حلف شمال الأطلسي. وهذا يعني أنّ المادّة الخامسة من ميثاق الحلف التي تنصّ على أنّ العدوان على أيّ دولة عضو هو عدوان على دول الحلف كافّة، لا تنطبق عليها. مع ذلك ردّت دول الحلف بأمرين:

– الأول تزويد أوكرانيا بالسلاح.

– الثاني فرض عقوبات اقتصادية وماليّة (سويفت)، وحتى ثقافية ورياضية، على روسيا.

الأمر الثاني هو أشدّ إيلاماً وأعمق أثراً. ولكن هل يؤدّي إلى ليّ ذراع الكرملين؟

ليست أوكرانيا عضواً في حلف شمال الأطلسي. وهذا يعني أنّ المادّة الخامسة من ميثاق الحلف التي تنصّ على أنّ العدوان على أيّ دولة عضو هو عدوان على دول الحلف كافّة، لا تنطبق عليها

تجيب التجارب العالمية بالنفي، على الرغم من النتائج الكارثية على الصعيد الإنساني للعقوبات الاقتصادية. مرّت أوروبا بسلسلة طويلة من الحروب البينيّة. وخلال حرب “المئة عام” كانت القوات البريطانية تحاصر القوات الفرنسية وتفرض عليها المجاعة.. حتى الاستسلام. كان الحصار المفروض من البحر خلال صراعات القرن الثامن عشر جزءاً أساسيّاً من آلة الحرب. وكان ذلك يتطلّب تعاوناً وتنسيقاً بين عدّة دول لمواجهة الدولة المستهدَفة. كما هو الأمر حاليّاً بين روسيا من جهة، ودول حلف شمال الأطلسي (الولايات المتحدة وأوروبا) من جهة ثانية. وعندما أُسِّست عصبة الأمم (1919 – 1920) أصبح هذا التعاون والتنسيق أكثر سهولة. وهو ما يترجمه الحصار الاقتصادي والماليّ الذي فرضه التحالف الأميركي – الأوروبي على روسيا.

وكلّما ارتفع حجم التبادل التجاري والماليّ بين الدول، كان عقاب المقاطعة والحصار الاقتصادي أعمق أثراً. فروسيا تستورد القمح من أوكرانيا وتصدّر الغاز والنفط إلى أوروبا (وخاصة إلى ألمانيا). وهي تتعامل مع السوق الماليّ العالمي الذي تسيطر عليه المجموعة الغربية (أميركا بصورة خاصة). ومن شأن ذلك أن يجعل العقوبات عليها أشدّ ألماً. لكن هل يكفي ذلك لليّ ذراع الكرملين الذي بادر سيّده فلاديمير بوتين إلى وضع السلاح النووي الروسي في حالة تأهّب؟!

قبل روسيا تعرّضت دول عديدة لسلاح العقوبات الاقتصادية. من هذه الدول إيطاليا (الموسولينيّة). ففي عام 1935 فُرِضت المقاطعة الماليّة على الصناعات الإيطالية (بيرلي للدواليب) و”فيات” (للسيّارات) ومونتيكاتيني (للكيماويّات)، وتولّى بنك بريطانيا المقاطعة.

وفي عام 1941 تعرّضت اليابان أيضاً للمقاطعة بعزلها تماماً عن الاقتصاد العالمي. وبذلك خسرت 90 في المئة من وارداتها و70 في المئة من عائداتها التجارية.

وفي عام 1910 أُسِّست مصارف ألمانيّة في دول أميركا اللاتينية، سرعان ما تعرّضت للمقاطعة، وقد اضطرّ أحد تلك المصارف في العاصمة الأرجنتينيّة بيونس آيرس إلى أن يغيّر اسمه خمس مرّات لتجنّب المقاطعة، لكن من دون جدوى. أمّا الآن فإنّ الالتفاف على المقاطعة في ظلّ العولمة والانفتاح الماليّ والاقتصادي والإعلامي بات أمراً متعذّراً، إن لم يكن مستحيلاً. وهو أشدّ تعذّراً وأكثر استحالةً عندما يتعلّق بروسيا. فإخراجها من نظام التعامل الماليّ الدولي (سويفت) يعزلها ماليّاً عن العالم. والعزلة الماليّة في عالم متداخل حتى الذوبان، أكثر فعّاليّة.

كان الوزير البريطاني وليم أرنولد فوستر يقول إنّ أهميّة العقوبات الاقتصادية تكمن في القدرة على حمل العدو على التمنّي لو أنّه لم ينجب أطفالاً.. حتى لا يواجهوا المعاناة التي تسبّبها لهم العقوبات. ويقول: إنّ “القلم (الذي يُوقَّع به قرار العقوبات) هو أمضى من كلّ سلاح!!”.

فهل هذا هو ما يقوم به اليوم الرئيس الأميركي جو بايدن؟ وهل من أجل هذا استنفر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سلاحه النووي؟

في منتصف الثلاثينيّات من القرن الماضي عندما فُرِضت على ألمانيا العقوبات الماليّة، امتنعت بريطانيا عن المشاركة فيها. لم تفعل ذلك حبّاً بالنازية، لكن حرصاً على أموالها المودعة في المصارف الألمانية. ففي ذلك الوقت كانت بريطانيا تُقرض الدولة والمصارف الألمانية. ولو أنّ بريطانيا واكبت مسيرة العقوبات لاهتزّ كيانها الماليّ، ولواجهت موجة إفلاسات متداخلة في مؤسّساتها الصناعية وشركاتها التجارية. ويبدو الآن أنّ هذا الأمر يمكن أن يتعرّض له الاقتصاد الألماني (الذي يعتمد على الغاز والنفط الروسيّيْن إلى حدّ كبير)، والذي يشارك في تمويل خط أنابيب ستريم-2 الممتدّ من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق، وهو المشروع الذي توقّف العمل به بعد انفجار أزمة أوكرانيا.

والسؤال الآن: إلى أين؟

التجربة التي مرّ بها المجتمع الدولي لا تبشّر بالخير. ذلك أنّ الآثار السلبية للعقوبات وللمقاطعات الماليّة والاقتصادية ألحقت بالاقتصاد الأميركي والأوروبي، واستطراداً بالاقتصاد العالمي، أضراراً فادحة أيضاً.. فكان “الانهيار الاقتصادي” الذي انعكس على انهيار التجارة العالمية.. وكانت ردّات الفعل في العشرينيّات من القرن الماضي التي تمثّلت في سقوط الحكومات في عدد من الدول الأوروبية، وفي قيام الفاشية (إيطاليا) والنازية (ألمانيا).

في عام 1939 قال أدولف هتلر: “إنّني أحتاج إلى أوكرانيا، لأنّني لن أتركها تعرّضنا للمجاعة من جديد، كما فعلت خلال الحرب الماضية (الحرب العالمية الأولى) “.

إقرأ أيضاً: 4 شروط ستفرضها موسكو على كييف… وتنسحب!

فماذا يقول بوتين عنها اليوم، وهي سلّة الغذاء الروسي؟!

لا يبدو أنّ الصراع محصور بقضية توسّع حلف شمال الأطلسي وتمدّده حتى حدود الكرملين، إذ يظهر أنّ الأمر يتعلّق أيضاً وقبل كلّ شيء بالأمن الغذائي.

في عهد الرئيس السوفياتي السابق الجنرال جوزف ستالين تمرّدت أوكرانيا على الكرملين. فكان عقابها مجاعة أودت بحياة خمسة ملايين إنسان. كان ذلك في عام 1920. فأيّ قدر تواجهه هذه الدولة المتمرّدة الواقعة بين مطرقة الكرملين وسندان الحلف الأطلسي؟

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…