سماحة “مولانا” إبراهيم عيسى..

مدة القراءة 8 د

قال لي عقب انتهاء تصوير حواره معي ضمن حلقة برنامجه الشهير “مختلف عليه” على قناة “الحرّة” الأميركية: “نفعنا الله من علمك”. فوجئت بمجاملة ابراهيم عيسى الرقيقة، واستعماله المتقن لأدبيّات إسلامية متداولة بين طَلَبة العلم. لكن لمّا استمعت إلى كامل الحلقة، وقد نشرها الحساب الرسمي للبرنامج على اليوتيوب، وجدت أنّ قسماً من حواري قد حُذِف. والجزء المحذوف (بضع دقائق) بدا وكأنّه يضرب الفكرة الرئيسية التي قامت عليها الحلقة (المنشورة في تشرين الثاني عام 2018)، والتي كانت تحت عنوان مثير كما هي العادة في كلّ حلقات البرنامج: “لماذا يكفِّرون أبي حنيفة؟” (كُتب العنوان مع خطأ نحوي فادح، والصواب “أبا حنيفة” وفق سياق الجملة). استغربتُ الفكرة، فمن ذا الذي يكفّر صاحب المذهب الفقهي الأكثر انتشاراً في العالم الإسلامي اليوم؟ وزاد استغرابي عندما كنتُ في غرفة الانتظار في أحد الاستوديوهات شرقي بيروت، وهو يسجّل مقدّمة البرنامج، يكرّر مرّة بعد أخرى، اسم أبي حنيفة، خطأً. أمعقولٌ أن يخطئ أحد في نطق اسم هذا الرجل، بدلاً من أبي حَنيفة بفتح الحاء، كان الإعلامي عيسى يلفظ اسمه هكذا: أبو حُنَيْفة بصيغة التصغير! قلت لزميلي في الحلقة الدكتور التونسي بسام الجمل، وهو يحمل دكتوراه في الآداب واللغة العربية أن ينتبّه عيسى إلى تصحيح اسم أبي حنيفة، ممّا يتطلّب إعادة تصوير المقدّمة، وكان دوره قد حان لتسجيل قسطه من الحوار قبلي.

ما من شكّ في أنّ الإعلامي المعروف بمعارضته حكم الرئيس السابق محمد حسني مبارك، وتأييده لثورة يناير في مصر عام 2011، عرف الكثير عن الإسلام وتاريخه

أمّا الجزء المحذوف من الحوار معه، فهو المتعلّق بما ركّز عليه عيسى منذ البدء، وهو أنّ مذهب أبي حنيفة كان سائداً في مصر، قبل أن يظهر “الحنابلة الوهّابيون المتطرّفون” في الساحة المصرية خلال العقود الأربعة المنصرمة، فاختلّ الميزان، وانحسر التسامح، بحسب رأيه، معتبراً أنّ المذهب الحنفي هو مذهب العقل لا مذهب النصّ. خُيّل لعيسى أنّ الهويّة المصرية المتسامحة متداخلة مع مذهب أبي حنيفة، فجاء أولئك المتطرّفون بفكر دخيل على مصر. لكنّ المسألة أعقد من ذلك. قلت له في سياق الحوار إنّ ثقل مذهب أبي حنيفة هو في العالم العجمي (التركي والآذري والروسي والأفغاني والهندي عموماً) لا في العالم العربي. صحيح أنّ أبا حنيفة نشأ علميّاً في الكوفة، وانتقل إلى بغداد، ومات فيها عام 150هـ/767م. لكنّ سياقات سياسية واجتماعية وعلمية تحسُر مذهباً عن منطقة، وتدفع به إلى الانتشار في بلدان أخرى، كما هو معروف عند المختصّين في دراسة تاريخ المذاهب الإسلامية، وحوافز الانتشار وعلل الانحسار. وباتت المحاكم الشرعية في البلاد العربية تعتمد اجتهادات الفقه الحنفي أثناء حكم الدولة العثمانية ابتداء من عام 1516م، حتى بعد سقوطها عقب الحرب العالمية الأولى عام 1923م، أي على مدى أكثر من خمسة قرون.

تفكيك الإسلام

وعلى هذا، لم يكن مفترضاً حذف هذا المقطع بالمونتاج، إلا إذا انتبه فريق عمل البرنامج، من سياق المداخلة، إلى أنّ منهج أبي حنيفة ليس كما ظنّوا، فهو ليس ضدّ النصّ من قرآن وسنّة، وتالياً ليس النقيض المطلق للحنابلة والسلفيين، من وجهة نظر فقهية وأصولية. يُضاف إلى ذلك أنّ فريق المعدّ للبرنامج ليس من أهل الاختصاص في العلوم الإسلامية كما هو ظاهر، ليس في هذه الحلقة فقط، بل في معظم الحلقات، إن لم نقل كلّها. والاتّكال في كلّ مرّة على مواقف خاصة لباحثين معاصرين معروفين بآرائهم المختلفة والبعيدة إلى هذا القدر أو ذاك عن الموروث العلمي الضخم عبر 1400 سنة، والذي أنتجه علماء الأصول (العقائد وأصول الفقه وقواعده) وعلماء الفروع (الاجتهاد الفقهي في المسائل التفصيلية)، أو علماء الحديث النبوي وقواعد الترجيح بين الروايات، والمؤرّخون للرجال والأحداث سواءً بسواء. والخلاصة أنّ برنامجه في “الحرّة” موجّه وليس ليبرالياً متعدّد الآراء. وهدفه معلن، وهو تفكيك ما يظنّونه الأسس الفكرية للإرهاب. لكنّ البرنامج مع إبراهيم عيسى هدفه العملي تفكيك أسس الإسلام نفسه، من خلال التشكيك في الحديث النبوي وأدلّته، وحتى في القرآن ابتداء من قصص الأنبياء فيه، ثمّ لغته، وقراءاته، وكيفيّة تدوينه، وصولاً إلى تأويل أحكامه. وكذلك الغضّ من وقائع التاريخ الإسلامي عامّة، والنيل من أبرز قادة الفتوحات العسكرية، فضلاً عن التشكيك في الصحابة وسِيرَهم. وفي هذا السياق، فاز البرنامج بجائزة نيويورك للسينما والتلفزيون عام 2020، في صنف البحث والتحليل، عن حلقة من برنامجه تحت عنوان: “اليهودية وتأثيرها على الإسلام” عام 2018. وفيها حوار مع الدكتور التونسي فوزي البدوي، أستاذ الدراسات اليهودية والعربية بالجامعة التونسية، وفيها يقول إنّ الإسلام بدأ كفرقة يهودية-مسيحية قبل أن يصبح ديناً مستقلّاً، ويعلّق عيسى قائلاً: الإسلام ليس دين وحي، بل حركة تاريخية!

 

وخصّص عيسى حلقة في برنامجه هذا عن الإسراء والمعراج عام 2019 للإشارة إلى أسطوريّة الفكرة من أساسها، وهذا قبل أن يصرّح بها في برنامجه “حديث القاهرة” في قناة “القاهرة والناس”، في 19 الشهر الجاري، زاعماً أنّه لا يوجد معراج في كتب الحديث، وأنّ ما حدث هو قصة وهمية كاملة، وأنّ المشايخ يقدّمون أنصاف القصص، وهذا يعني أنّها ستكون غير حقيقية. وتابع أنّ الحكايات الواردة عن المعراج دعائيّة وغير حقيقيّة، وأنّها عبارة عن قصص وهمية اختلقها الشيوخ، وأنّ المشايخ يتجاهلون الروايات التي تنفي حقيقة المعراج. والأكثر لفتاً للانتباه، ما جاء لاحقاً من كلامه، وهو تحريضه على عدم اعتماد كلام علماء الشريعة لأنّه بمعظمه كذب. وبحسب تعبيره: “إنّ المسلم في عام 2022 لا يحتاج إلى أيّ رجل دين أو شيخ في حياته. ماذا سيعلّمك الشيخ؟ الصلاة والصوم؟ يعني أنت لا تعرف الصلاة أو الصوم؟ يعلّمك الزكاة؟ أنت لا تزكّي مالك؟ سيعلّمك كيف تحجّ؟ هناك مطوّف يعلّمك كيف تحجّ. يريد منكم السلفيون أن تكونوا متتبّعي عورات، وقيّمين على الناس، ومفتّشي قلوب، وجلّادين غلاظ النفوس”. بنظر عيسى، كلّ من يخالفه في الرأي هو سلفي!

ردّت دار الإفتاء في مصر على عيسى بالتأكيد أنّ الإسراء ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والمعراج إلى السماء، حدثان مؤكّدان في القرآن والحديث النبوي، وأنّهما كانا بالروح والجسد. وهذا ما عليه جمهور العلماء. أمّا عيسى فقد حاول الإيحاء بأنّ الحقيقة تكمن في كتب الحديث التي تنفي المعراج. وهو هنا يومئ ولا يسرد الروايات المناقضة للمعراج، ولا يورد مراجعها أو أسانيدها، أي كلام في الهواء، فيما الخلاف الرئيسي الوحيد، الذي تناقش فيه المحدّثون والمفسّرون والأصوليون على نحوٍ معمّق، هو: هل كان الإسراء والمعراج بالروح والجسد أم بالروح فقط؟ وما سار عليه جمهور العلماء قديماً وحديثاً، هو ما أفاد به بيان دار الإفتاء، أي أنّه كان بالروح والجسد، لا بالمنام.

إمامُ نفسِه

ما من شكّ في أنّ الإعلامي المعروف بمعارضته حكم الرئيس السابق محمد حسني مبارك، وتأييده لثورة يناير في مصر عام 2011، عرف الكثير عن الإسلام وتاريخه، ليس فقط من خلال حلقات البرنامج المثير للجدل “مختلف عليه”، وقد حصر اهتمامه في المسائل التاريخية والعقدية الخلافية، وفي إثارة الآراء الشاذّة قديماً وحديثاً، بل عبر برامجه السابقة، التي كانت تتناول الصحابة والخلاف بينهم. لكن، وبما أنّه لم يدرس علوم الإسلام بشكل منهجي، كما هو حال سائر الدارسين الجادّين في أيّ اختصاص، فإنّ اطّلاعه المتواصل على الآراء المختلفة في كل مسألة عقدية أو فقهية أو تاريخية، على مدى سنوات، جعله حائراً في أقلّ تقدير، أو متخبّطاً في الميل نحو رأي دون آخر، ومن دون الاعتماد على قاعدة معيّنة. وإضافة إلى ذلك، كان إبراهيم عيسى طوال مسيرته المهنية، مشاغباً ومعارضاً للسلطة السياسية. أقفلت السلطات جريدة الدستور عام 1998 وكان يرأس تحريرها، بسبب نشر بيان فيها لإحدى الجماعات الإسلامية. وتعرّض لملاحقات قضائية بسبب مواقف ومقالات له. وقدّم أكثر من برنامج على أكثر من قناة مصرية وأجنبية. لكنّه وصل إلى ذروة الانتشار والجدل مع قناة “الحرّة”.

إقرأ أيضاً: سبعون عاماً ملكة

له مؤلّفات عدّة، منها ما هو تجميع مقالات منشورة، ومنها روايات سياسية ودينية كبيرة الحجم، ومنها ما لقي اعتراض السلطة، مثل رواية “مقتل الرجل الكبير” التي صودرت. وكان كتبها عام 1999، وهي تحكي قصة مقتل رئيس الجمهورية في ظرف غامض. والطريف فيها أنّها تذكر حرق معارضين أنفسهم احتجاجاً على السلطة، وهو ما سيحدث في انطلاقة الربيع العربي من تونس في 17 كانون الأول عام 2010، عندما أحرق محمد البوعزيزي نفسه، فأطلق شرارة هائلة في مجمل العالم العربي. وله رواية أخرى، يتناول فيها بالسخرية رجال الدين، تحت عنوان “مولانا“. يقول عيسى إنّ هذه الرواية بدأ كتابتها عام 2009، حين كان يعارض الرئيس السابق محمد حسني مبارك، وأثناء المحاكمات التي كان يخضع لها، ثمّ فصله من جريدة الدستور، ثمّ منعه من الكتابة حتى قامت الثورة، والمرور بالمرحلة الانتقالية، وإنّه استمرّ في الكتابة حتى آذار 2012. “إنّها من أعزّ الروايات إلى قلبي” كما يقول. هذه الرواية، ترسم شخصية متناقضة لرجل الدين، عبر نموذجين. الأول هو النجم التلفزيوني الذي يتقن التعامل مع الكاميرا، ويحرص على ظهوره ومظهره، وهو في حقيقته تاجر علم، ومتعاون مع السلطة. والثاني هو الشيخ الأزهري التقليدي، الجامد في تفكيره، والذي يغذّي التطرّف من حيث لا يدري. فلا عجب أن يتبرّأ عيسى من النموذجين معاً، بل من كلّ رجال الدين قاطبة. وهو “مفتي” نفسه، يستمع لعقله، ويرسم صورة الدين كما يهواه، فلا يحتاج إلى دليل؟

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…