بدأت شمس الملكة إليزابيث، ملكة بريطانيا، بالمغيب بعد سبعين عاماً على العرش عايشت خلالها 14 رئيس حكومة و7 بابوات و14 رئيساً أميركياً. وخلال هذه الفترة شهدت تحوّل بلادها من إمبراطورية تمتدّ في قارّات أميركا وآسيا وإفريقيا إلى دولة عضو في الاتحاد الأوروبي. ومن هذه العضويّة إلى دولة تخشى على وحدتها، “وحدة المملكة المتحدة”، من تطلّعات اسكوتلندة الاستقلاليّة، وحتى من احتمال عودة شمال إيرلندة إلى الاتحاد مع دولة إيرلندة الجنوبية.
لم تكن الملكة مسؤولة عن الحكم في الدولة. كانت رمزاً لوحدتها فقط. ولكنّها مع هذه الرمزية لم تخفِ مشاعرها المناقضة أحياناً لبعض سياسات الحكومات المتعاقبة، وخاصة عندما كان الأمر يتعلّق بالقضايا الإنسانية. من ذلك مثلاً أنّه عندما أُطلق سراح نيلسون مانديلا من السجن، سارعت إلى دعوته إلى مؤتمر الكومنولث حتى قبل ثلاث سنوات من تولّيه رئاسة الحكومة. وعندما اُنتُخب رئيساً لم تتردّد في التوجّه إلى جنوب إفريقيا في عام 1994 لتهنئته في البرلمان خلافاً لنصائح مارغريت تاتشر رئيسة الحكومة البريطانية في ذلك الوقت.
أهمّ إنجازات الملكة إليزابيث أنّها تمكّنت من أن تفرض كلّ هذه القيود الشخصية والاجتماعية على زوجها الملك الجديد. فكانت ملكة الملك
وأثارت الملكة إليزابيث غضب العنصريّين البيض في الولايات المتحدة عندما زارت مدينة جيمس تاون في ولاية فرجينيا في عام 2007 لمناسبة مرور 400 عام على إقامة أوّل مستعمرة بريطانية في العالم الجديد. فقد استقبلت هناك رؤساء القبائل الهندية الذين كان أجدادهم أوّل من استقبل الفاتحين الإنكليز.
وخلال هذه السنوات السبعين تغيّر كلّ شيء في بريطانيا. وحدها الملكة لم تتغيّر. فهي لم تكن رمزاً للاستمرار وحسب، بل كانت رمزاً للثقة بالنفس في الدرجة الأولى..
فقد تحوّلت بريطانيا من دولة مستعمِرة يؤمن قادتها بتفوّق العنصر الأبيض -تشرشل نموذجاً – إلى حاضنة للكومنولث المتعدّد الأجناس والألوان والأديان. ولقد زارت إليزابيث مدينة كيب تاون في جنوب إفريقيا مع عائلتها في عام 1947 في ظلّ إمبراطوية تتمسّك عاصمتها (لندن) بفوقيّتها العنصرية (قبل قيام الكومنولث بتعدّده العنصري). وعندما أراد والدها الملك جورج السادس تقديم وسام لأحد القادة الأفارقة السود، تعرّض من الحركة العنصرية البيضاء لانتقادات لاذعة لم توفّر إليزابيث نفسها التي كانت تؤيّده في تلك المبادرة.
وبعد مرور عام على الزيارة سيطر الحزب الوطني الإفريقي العنصري (الأبيض) على السلطة وفرض حكم الأبارتيد (التمييز العنصري). وقد استمرّ هذا الحكم على الرغم من كراهية الملكة إليزابيث له. ذلك أنّ القرار بشأن التعامل معه هو للحكومة البريطانية وليس للملكة.
منذ أن اعتلت العرش لم تبدِ أيّ تأييد أو تعاطف مع الحكم العنصري في جنوب إفريقيا. حتى إنّها امتنعت عن زيارة الدولة (وكذلك عن زيارة روديسيا (زيمبابوي حالياً) التي كان أحد كبار المستعمرين قد أطلق اسمه عليها).
رقصت الملكة إليزابيث مع الرئيس الغاني الراحل كوامي نيكروما (الذي كان يُعتبر رمزاً وطنياً وقومياً في بلاده وفي القارة الإفريقية). وذلك أثناء الاحتفال بعيد استقلال غانا في عام 1961. يومئذٍ تعرّضت الملكة لانتقادات من العنصريين البيض، وردّت على ذلك بأنّها تريد توجيه رسالة إلى الأفارقة في كلّ مكان من القارة بأنّها تقف إلى جانبهم بصرف النظر عن العنصر أو الإثنية أو الهويّة الوطنية.
صحيح أنّ الملكة إليزابيث تملك ولا تحكم، لكن ساد تقليد مستمرّ حتى اليوم، وهو أن يقوم رئيس أو رئيسة حكومة المملكة المتّحدة بزيارتها أسبوعياً لإطلاعها على كلّ ما يتعلّق بشؤون الدولة وشجونها. وفي أساس هذا التقليد أن لا يصرّح رئيس أو رئيسة الحكومة بحرف واحد بما دار في الاجتماع. وكانت الملكة نفسها أشدّ التزاماً بهذا التقليد. ولكن من المتعارف عليه أيضاً أنّ أشدّ المراحل توتّراً بين الملكة وأيّ رئيس حكومة كانت مرحلة رئاسة مارغريت تاتشر. كانت تاتشر على عكس الملكة متشدّدة في عنصريّتها.
لا تقتصر حياة الملكة إليزابيث على مواقفها العامّة من الشؤون السياسية أو العنصريّة، لكنّها تشمل حياتها الخاصّة بعد زواجها من الأمير فيليب. فالرجل لم يكن إنكليزياً. وُلد في جزيرة كورفو اليونانية في عام 1921 وجاء إلى بريطانيا بالصدفة. عندما تزوّج إليزابيث كان والده قد توفّي، وأصيبت أمّه بانهيار عصبي التحقت على أثره بأحد الأديرة، واعتمدت اللون الرمادي لملابسها حتى وفاتها. أمّا شقيقاته الأربع فقد تزوّجت ثلاث منهنّ نازيّين ألماناً، ولذلك لم تحضر أيّ منهنّ حفل زواجه بإليزابيث في كنيسة وستمينستر بعد الحرب العالمية الثانية.
وحتى يتمّ الزواج كان على فيليب أن يغيّر كنيسته (من الأرثوذكسية اليونانية إلى الأنكليكانية). وكان عليه أن يتنازل عن جنسيّته الأصلية (اليونانية)، وأن يعيد تحديد تاريخ ميلاده على أساس التقويم الغريغوري بدلاً من التقويم الجولياني. ثمّ كان عليه أن يلتزم بدور محدّد له بموجب البروتوكول الملكي البريطاني، وهو أن لا يتحدّث إلا نادراً جملة أو جملتين، وأن يمشي خلف زوجته الملكة، خطوة أو خطوتين.
إقرأ أيضاً: أنجيلا ميركل: وداعاً
لعلّ أهمّ إنجازات الملكة إليزابيث أنّها تمكّنت من أن تفرض كلّ هذه القيود الشخصية والاجتماعية على زوجها.. الملك الجديد. فكانت ملكة الملك.