أوكرانيا.. واستحالة الحياد التركي

مدة القراءة 8 د

نجح “النازي فولوديمير زيلينسكي وحاشيته” في تجييش المجتمع الدولي والمؤسسات الأممية والدولية ضدّ روسيا والغزو الذي تنفّذه ضدّ بلاده منذ أسبوع. لم تأخذ الجمعية العامّة للأمم المتحدة بالرواية الروسيّة حول أسباب تنفيذها لهذه “العملية الخاصّة”، ولا بالعرض التاريخي المفصّل الذي قدّمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتبرير هذا الاعتداء على دولة جارة تمرّدت على الفضاء الروسيّ.

حسمت تركيا موقفها ولجأت إلى تفعيل بنود اتفاقية مونترو للمضائق الموقَّعة عام 1936 على خلفيّة التدخّل العسكري الروسي في أوكرانيا، بعدما قرّرت توصيف الأزمة على أنّها حالة حرب تهدّد أمن البوسفور والدردنيل واستقرار حوض البحر الأسود لتحريك نصوص مونترو.

كلّما ارتفعت مستويات التصعيد العسكري والسياسي في ملف الأزمة الأوكرانية، تراجعت فرص تركيا في الوقوف على مسافة واحدة من الطرفين

أهمّ موادّ الاتفاقية، التي يبلغ عددها 29، هي 19 و20 و21، وكلّها تتعلّق بتنظيم حركة عبور السفن عبر المضائق التركيّة في زمن الحرب والسلم، وبما إذا كانت تركيا طرفاً في الحرب أم لا، إلى جانب مسألة التمييز في المعاملة بين السفن الحربية والسفن التجارية، وحقوق تركيا الكاملة في تنظيم كلّ هذه المسائل بمفردها.

فعّلت أنقرة الاتفاقية على الرغم من معرفتها بعدم حاجتها إلى ذلك في هذه المرحلة، لأنّ مسرح العمليات لم يصل إلى المضائق التركية ولم يقترب منها بعد. وهي لم تفعل ذلك إرضاءً للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي كرّر دعوة بلاده تركيا إلى إغلاق المضائق في وجه السفن الحربية الروسية. فالاتفاقية نفسها تمنح موسكو حقّ إدخال سفنها الحربية إلى مرافئها المطلّة على البحر الأسود عبر المضائق التركيّة، وروسيا لا تحتاج أساساً إلى استخدام المضائق في حربها على أوكرانيا.

الخطوة التركية هي استباقية، وهدفها المعلن الذي قاد أنقرة إلى الإقدام على مثل هذا التدبير هو محاولة تخفيف التوتّر الروسي الأوكراني، ودفع الطرفين نحو طاولة الحوار، والحؤول دون اتّساع رقعة المعارك وتحوُّل الأمر إلى مواجهة إقليمية. لكنّ رسالة أنقرة روسيّة أيضاً لتذكير موسكو أنّ حياديّتها لا تعني قبول التوتير الروسي الإقليمي على هذا النحو، وأنّها لن تدعم أيّ مشروع روسي إقليمي لتوسيع رقعة العمليات العسكرية في حوض البحر الأسود وشرق أوروبا ومناطق الجمهوريّات التركية، حيث مشروعها المعلن بتوحيد العالم التركي قد يلقى ضربة أو انتكاسة استراتيجيّة سببها التصرّفات الروسيّة.

 

السلاح النووي

لوّحت موسكو قبل أيّام بورقة السلاح النووي ضدّ مَن يعارض مصالحها ويحاول المساس بها. لم يسبقها إلى ذلك إلا كوريا الشمالية. ألا يقلق السلوك الروسي الجديد هذا حلفاء وشركاء موسكو قبل خصومها وأعدائها؟

دعت موسكو في الساعات الأخيرة الجانب الأميركي إلى التفاوض حول الملفّ الأوكراني. دعوة تحمل معها الكثير من علامات الاستفهام عن شكل الصفقات ومواضيعها وأماكنها، شئنا أم أبينا. هل تذهب واشنطن أيضاً للمساومة على صفقة إقليمية مع الكرملين تتجاهل فيها مصالح حلفائها وشركائها في الإقليم؟

 

تتحكّم جملة من الحقائق والمعطيات بالموقف التركي، وتحدّد شكله في المرحلة المقبلة:

– كلّما ارتفعت مستويات التصعيد العسكري والسياسي في ملف الأزمة الأوكرانية، تراجعت فرص تركيا في الوقوف على مسافة واحدة من الطرفين أو التمسّك بسياسة الحياد الإيجابي التي تقول إنّها تتبنّاها حتى اليوم.

– التحوُّل الدراماتيكي لن يكون في العلاقات التركية الأوكرانية حتماً، بل في احتمال أن تجد أنقرة نفسها بين خيار تجاهل ما تفعله روسيا في أوكرانيا والاكتفاء برفض العملية وتذكير موسكو بأسس ومبادىء القانون الدولي العامّ، أو خيار الالتحاق بالموكب الغربي الذي يوسّع يوماً بعد آخر رقعة المواجهة مع روسيا على أكثر من جبهة.

– لن يكون امتحان أنقرة فقط مع كييف التي تقول إنّها شريك استراتيجي لها في أكثر من ملف ثنائيّ، ولا مع موسكو التي تذكّر الجانب التركي بحجم تداخل وتشابك العلاقات وحاجة تركيا إلى الطاقة والأسواق والسائح الروسي في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمرّ بها، بل مع موسكو الوجه الآخر التي قد تتحرّك أوّلاً لرفض قرار تفعيل اتفاقية مونترو للمضائق التركية الموقّعة عام 1936 وحظر تنقّل قطعها العسكرية البحرية، والتي لجأت ثانياً إلى خيار وضع وحدات السلاح النووي الروسية في حالة التأهّب، والتي تقوم أيضاً بتوجيه رسائل إقليمية إلى حلفاء أميركا في شرق أوروبا من دون أن ننسى حصّة تركيا في ذلك.

– سيقود استمرار التصعيد العسكري على جبهات أوكرانيا عاجلاً أو آجلاً إلى فتح جبهات جديدة في حوض البحر الأسود، وسيدفع اللاعبين الإقليميين المؤثّرين إلى الانحياز إلى طرف أو آخر، وهذا سيطول المواقف والسياسات التركية الإقليمية أيضاً في أحسن الأحوال.

– سيكون الحياد الإيجابي أو السلبي صعباً جدّاً على تركيا في المرحلة المقبلة، وهي التي تقول إنّها تعلّمت من دروس الحرب العالمية الأولى ونجحت إلى حدٍّ كبير في تطبيقها خلال الحرب العالمية الثانية، وتريد أن تكرّرها مجدّداً في المواجهة الغربية الروسية. فتوازنات العام 1940 وما بعده هي غير توازنات العام 2022 وما قبله. التحقت تركيا خلال هذه الفترة بالغرب ومؤسّساته العسكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. يزيد حجم علاقاتها التجارية مع الغرب على 150 مليار دولار سنوياً، وغالبيّة أنظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية مرتبطة بالغرب، شئنا أم أبينا، فكيف ستُقنع هذه العواصم بإبقائها على الحياد في مواجهة مصيرية مع روسيا من هذا النوع؟

– يتطلّب حياد تركيا أوّلاً إعادة برمجة علاقاتها مع المنظومة الغربية وتقبُّل كلّ الارتدادات الإقليمية والدولية التي ستنتج عن ذلك، وثانياً مراجعة مسار علاقاتها مع دول فاعلة في الإقليم ستحدِّد مواقفها وسياساتها هي الأخرى حيال ما يجري، وعلى رأسها إسرائيل وإيران ومصر.

– تضع أنقرة بعين الاعتبار أنّ المواجهة الغربية الروسية ستنتقل فوراً إلى جبهات إقليمية أخرى ستشمل ملفّات وأزمات عالقة تنتظر حسماً، مثل ملفّ الطاقة في شرق المتوسط ومسار الأزمة السورية والوضع في لبنان. سيقود مسار الملف الأوكراني وتفاعلاته سريعاً إلى دفع الجميع نحو اصطفاف إقليمي جديد في هذه المسائل. سيكون إشعال الجبهات في الشرق الأوسط مرتبطاً بمدى قدرات اللاعبين الإقليميين المؤثّرين في الملفّات على الدخول في تفاهمات جديدة تقوم على التحييد والابتعاد عن خيارات التوجّه إلى الخنادق أو الرضوخ لقرارات التصعيد الغربي الروسي في المنطقة واختيار أحد الطرفين في المعركة.

– أيضاً فإنّ المصالحة التركية الإسرائيلية، نتائج الحوار التركي المصري، والانفتاح التركي الخليجي، تقول إنّ إيران ستجد نفسها مجبرة على تبنّي التحالف الروسي الصيني في المواجهة. لكنّ المؤشّر الحقيقي إلى مثل هذا الاحتمال هو نتائج المفاوضات الأميركية مع طهران في الملف النووي.

 

خير الله خير الله

السؤال الذي طرحه الإعلامي اللبناني خير الله خير الله قبل أيام في موقع “أساس (https://www.asasmedia.com/news/391809)، وهو تحذيري لإدارة بايدن، “التي قد ترتكب خطأ ثالثاً ضخماً في وقت يسعى بوتين إلى تغيير التوازنات الأوروبية ورسم خطوط حمر لحلف شمال الأطلسي”، ويتطلّب التعامل مع مسألة “هل توقِّع أميركا مع إيران في 2022 اتفاقاً أسوأ من اتفاق 2015، مستندةً إلى حجج واهية، ومتجاهلةً أنّ المشكلة في المنطقة تكمن في المشروع التوسّعي الإيراني قبل أيّ شيء آخر؟”. هذا السؤال يستدعي إجابة سريعة من البيت الأبيض تأخذ بعين الاعتبار المتغيّرات الإقليمية والدولية المرتبطة بتصاعد ملف الأزمة الأوكرانية.

اختارت أنقرة نهجاً ثالثاً في التعامل مع ملف الأزمة الأوكرانية يقوم على حماية علاقاتها مع موسكو وكييف والدعوة إلى الحوار مع انتقاد العمليات العسكرية الروسية المخالفة لأسس ومبادىء القانون الدولي. لكنّ بقاء أنقرة على مواقفها سيكون مرتبطاً بمسار التطوّرات العسكرية والسياسية على الأرض في جميع الأحوال.

إقرأ أيضاً: إيران تستفيد من غزوة أوكرانيا!

بكلام آخر، فإنّ ما نتحدّث عنه هو صعوبة الحيادية التركية لأنّ المؤشّرات كلّها تلتقي عند استحالة بقاء الدول خارج الاصطفافات التي حرّك بوتين جراحها التاريخية والجغرافية والعرقية قبل أسبوع، ودعم طرحه بوضع ورقة السلاح النووي على الطاولة لتكون القوة الرادعة للمتمرّدين والمتردّدين والمعارضين.

مَن سهّل لنا الوصول إلى هذا الاستنتاج ليس وقوف حزب الله والحوثيين إلى جانب بوتين طبعاً، بل التحوّل الحاصل في مواقف دولة مثل سويسرا والعواصم الإسكندينافية التي تخلّت عن حياديّتها المعمول بها منذ عقود والتحقت بالقرارات الغربية في مواجهة الحرب الروسية التي تُعتبر أهدافها غير المعلنة أهمّ وأكبر بكثير من تلك التي أعلنها الكرملين حتى الآن.

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…