أظهر تعامل السلطة اللبنانية مع الورقة، التي حملها وزير الخارجية الكويتي أحمد ناصر الصباح إلى المسؤولين اللبنانيين، أنّ لديها استراتيجية واضحة في التعاطي مع ارتدادات سياسات حزب الله على علاقات لبنان العربية والدولية وعلى الداخل اللبناني. فمضمون الردّ اللبناني على الورقة الكويتية لا ينمّ عن عجز هذه السلطة إزاء حزب الله، وإنمّا عن تواطئها مع سياساته. ومن هذا المنطلق فقد اشتغلت السلطة على خطّين متوازيين في تعاطيها مع البنود الاثني عشر التي تضمّنتها الورقة الكويتية.
الخطّ الأوّل: محاولة تظهير انقسام خليجي وعربي حول مضمون هذه الورقة عبر الإيحاء أنّ بنودها تمثّل إملاءً سعوديّاً ولا تعكس سياسات بقيّة الدول الخليجية، إضافة إلى مصر والأردن. وفي هذا السياق تمّ التركيز على استعادة أدوار الوساطة التاريخية للكويت في لبنان والعالم العربي للإيحاء بتمايز كويتي تجاه لبنان، مع أنّ حمْل الكويت لهذه البنود يُفسَّر على نحو مختلف تماماً، أي أنّ الكويت نفسها التي عُرفت بـ”سياساتها الناعمة” لا يمكنها النأي بالنفس عن تدخّلات حزب الله وأدواره في المنطقة، وبخاصّة في اليمن، مع الحفاظ على هوامش خاصّة بها في التحرّك تبعاً لواقعها السياسي.
يمكن القول إنّ هناك نقطة التقاء بين التحرّك الخليجي – العربي تجاه لبنان وبين تحرّك بعض الدول العربية تجاه النظام السوري. تتمثّل هذه النقطة في أنّ التحرّكين يستهدفان النفوذ الإيراني في كلا البلدين
هذا أمرٌ لا يدلّ على تحوّل في السياسة الكويتية تجاه لبنان وحسب، بل على متغيّرات في سياسات دول عربية أساسية تجاهه أيضاً. إذ يُستشفّ من مجمل الحراك السياسي – العسكري العربي في المنطقة أنّنا أمام تشكّل نواة أو إعادة ترميم النظام العربي لمرحلة ما بعد “الربيع العربي”. ولذلك فإنّ مصر والأردن معنيّتان بالضرورة بالورقة الكويتية بغضّ النظر عن طبيعة مشاركتهما أو دورهما فيها.
لبنان وسوريا
لذلك يمكن القول إنّ هناك نقطة التقاء بين التحرّك الخليجي – العربي تجاه لبنان وبين تحرّك بعض الدول العربية تجاه النظام السوري. تتمثّل هذه النقطة في أنّ التحرّكين يستهدفان النفوذ الإيراني في كلا البلدين. وإذا كانت نقطة الالتقاء هذه غير كافية للقول إنّ هناك مسارين عربيّين متشابهين في لبنان وسوريا، فإنّ حديث وزير الخارجية الكويتي عن إجراءات إعادة بناء الثقة مع لبنان تذكِّر بمعادلة “الخطوة مقابل خطوة” في التعامل العربي مع النظام السوري. دائماً مع الأخذ في الاعتبار استمرار غياب المؤشّرات إلى الرغبة السعودية في التطبيع مع بشار الأسد. فحتّى تنقّل الممثّل الخاصّ للرئيس الروسي في سوريا ألكسندر لافرنتييف بين الرياض ودمشق الأسبوع الماضي لم يبدّل في هذا الأمر، بل دلّ على تفهّم روسيّ للموقف السعودي من الأزمة السورية.
أمّا الخطّ الثاني لتعامل السلطة اللبنانية مع الورقة الكويتية فهو ذو مستويين متداخلين. فالسلطة حدّدت سريعاً وأثناء وجود الوزير الكويتي في بيروت السقف الذي يمكنها التحرّك تحته، وهو السلم الأهلي في لبنان، وذلك ربطاً بالبند الخامس من الورقة الكويتية المتعلّق بوضع إطار زمني محدّد لتنفيذ قرارات مجلس الأمن بدءاً بالقرار 1559.
وبالتزامن مع تحديد هذا السقف طرحت السلطة فكرتين حواريّتين. الأولى تشكيل لجنة لإجراء حوار بين لبنان والدول الخليجية، وهي فكرة وُلدت ميتة. والثانية توسيط الكويت لإدارة حوار بين الأفرقاء اللبنانيين كما ورد في رسالة الرئيس ميشال عون إلى أمير الكويت الشيخ نوّاف الأحمد الجابر الصباح.
ولا شكّ أنّ طرح فكرتيْ الحوار هاتين يصبّ في خانة الالتفاف على المشكلة الرئيسية بين لبنان والدول الخليجية، أي سلاح حزب الله وتمدّداته الخارجية. فالورقة الكويتية واضحة لجهة تحديد هذه المشكلة، فيما السلطة اللبنانية لا تريد الاعتراف بها، حتّى لو كانت لا تستطيع التعهّد بوضع جدول زمني لتنفيذ القرار 1559. ولذلك فإنّ تحفّظها على هذا البند لم يقترن برفض واضح لتدخّلات الحزب الإقليمية، وبالأخص في اليمن، بل طلبت الحوار مع الدول الخليجية حول هذه النقطة بالذات، وكأنّ أيّ إدانة جدّيّة من قبل السلطة لهذه التدخّلات وتحميل الحزب المسؤولية السياسية عنها يتسبّبان أيضاً بحرب أهليّة، وذلك بغضّ النظر عن أيّ نقاش في تطبيق الـ 1559. وهو ما يؤكّد مرّة إضافية هيمنة الحزب على القرار السياسي للدولة.
الورقة الخليجية تمثّل نقطة تحوّل في العلاقة الخليجية – العربية مع لبنان بمقدار ما يجسّد الردّ اللبناني عليها عجز الدولة عن التعاطي مع هذا التحوّل
لبنان مشكلة للعرب
لقد أظهرت الورقة الخليجية والردّ اللبناني عليها أنّ لبنان بات يشكّل لأوّل مرّة في تاريخه مشكلة لمحيطه العربي، وهو ما عبّر عنه السفير السعودي وليد البخاري بقوله إنّ أنشطة حزب الله باتت تهدّد الأمن القومي العربي، أي أنّ المنظومة الخليجية – العربية المعنيّة بحماية أمنها القومي لا تستطيع تجاهل أنشطة الحزب. ولذلك فهي مضطرّة إلى التعاطي معها بالوسائل التي تحميها منها بمعزل عن موقف السلطة اللبنانية التي ألغت أيّ حدود فاصلة بين الدولة وحزب الله.
بهذا المعنى فإنّ الورقة الخليجية تمثّل نقطة تحوّل في العلاقة الخليجية – العربية مع لبنان بمقدار ما يجسّد الردّ اللبناني عليها عجز الدولة عن التعاطي مع هذا التحوّل. وهو ما يعني أنّ المشهد اللبناني سيكون محكوماً في المرحلة المقبلة بالتناقض بين المصلحة الاستراتيجية للدول الخليجية والعربية في لبنان وبين تواطؤ السلطة اللبنانية مع مصلحة حزب الله الاستراتيجية من ضمن الأجندة الإيرانية في المنطقة.
يأتي ذلك في وقت لا يمكن توقّع قبول الخليجيين والعرب بتكريس الاختراق الإيراني للساحة اللبنانية لِما يشكّله من مخاطر على البيئة الاستراتيجية العربية. وهذا الأمر سيكون عنوان صراع محتدم حول لبنان، كما يمكن أن يكون في المقابل عنواناً لأيّ تسوية إقليمية – دولية حول لبنان انطلاقاً من البنود الاثني عشر في الورقة الكويتية.
انطلاقاً ممّا سبق، سيكون لبنان محكوماً في المرحلة المقبلة بهاتين الديناميّتين المتقابلتين، أي ديناميّتيْ الصراع والتسوية حول لبنان. ولعلّ الانتخابات النيابية ستشكّل المحطّة الأولى ضمن هذا المسار الجديد.
لكن وفق أيّ عناوين سياسيّة ستُخاض الانتخابات؟
إذا كانت قوى السلطة متماهية إلى الحدود القصوى مع سياسات الحزب فإنّ الاستقطاب السياسي في الانتخابات يفترض أن يكون بين قوى تريد رسم حدود فاصلة بين الحزب والدولة، وبين قوى تريد إلغاء هذه الحدود مقابل مشاركة الحزب في السلطة. وهذا أمر يُفترض أن يُنتج مشهداً انتخابياً انقساميّاً بين فريق يؤيّد المبادرة العربية تجاه لبنان وبين فريق يرفضها.
إقرأ أيضاً: لبنان الرسمي “يسقط” في الامتحان العربي؟
بهذا المعنى فإنّ الانتخابات التشريعية تشكّل استفتاءً حول “الهويّة الوطنية للبنان”، بحسب تعبير وزير خارجية الفاتيكان ريتشارد غالاغر. فإمّا أن يكون لبنان عربيّ الهويّة والانتماء كما ينصّ اتفاق الطائف الذي دعت الورقة الكويتية إلى الالتزام به، أو أن يتمّ تكريسه في دائرة النفوذ الإيراني. وهو ما يذكّر بتوصيف البطريرك نصرالله صفير للمعركة الانتخابية في العام 2009، عندما قال، قبل ساعات من فتح صناديق الاقتراع، إنّنا أمام تهديد للكيان اللبناني ولهويّتنا العربية.