“السياسيون في لبنان متآمرون”، بهذه الجملة البسيطة يمكن اختصار الخلاصات التي خرج بها الموفد الفاتيكاني إلى لبنان. وذلك بعدما كان “أساس” قد أشار قبل أسبوعين إلى خوف لدى الفاتيكان من “زوال لبنان”. كلام أكّده وزير خارجية الفاتيكان بول غالاغر: “زوال لبنان سيكون لحظة سيندم عليها العالم”.
قال كلامه هذا بعدما جال على الرؤساء الثلاثة، وشارك في اجتماع مجلس المطارنة الموارنة في بكركي، وفي مؤتمر جامعة الروح القدس-الكسليك لمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين على إصدار الإرشاد الرسوليّ “رجاء جديد للبنان”، الذي وقّعه القدّيس البابا يوحنّا بولس الثاني أثناء زيارته للبنان في أيّار 1997.
“السياسيون في لبنان متآمرون”، بهذه الجملة البسيطة يمكن اختصار الخلاصات التي خرج بها الموفد الفاتيكاني إلى لبنان
فما هي المعطيات التي دفعت بالوزير الفاتيكاني إلى إطلاق هذا التحذير؟ وهل من دور سيلعبه الحبر الأعظم في المرحلة المقبلة للمحافظة على ما تبقّى من صيغة إسلامية مسيحية يريد الفاتيكان المحافظة عليها نموذجاً في المنطقة؟
ينقل غالاغار خشية فاتيكانية من “ألا يكون مستقبل هذا الوطن مضموناً”. ويدعو “الجميع وكلّ القادة، سواء محلياً أو دولياً، إلى الحفاظ على لبنان بصفته رسالة للعيش معاً والأخوّة والرجاء بين الأديان”. يقول هذا في لحظة سياسية مفصليّة تاريخية يمرّ فيها لبنان.
مواكبون لهذه الزيارة يكشفون لـ”أساس” أنّ غالاغار “أتى مستمعاً، وغادر حاملاً خلاصات عن الأزمة لإعداد تصوّر للحلّ”. وفي المعلومات المستقاة من لقاءاته مع المسؤولين أنّه دعا لبنان الرسمي إلى “الالتزام بتنفيذ الإصلاحات في مسار إعادة بناء الدولة أوّلاً، ودعا إلى الالتزام بالقرارات الدولية والمحافظة على علاقات جيّدة مع دول الخليج”.
في عنوان الإصلاحات، تشير المعلومات إلى قناعة لدى الفاتيكان بأنّ عدم تنفيذها “ليس من باب الصدفة، بل تتقصّده الطبقة السياسية لإيصال لبنان إلى القعر، في ما يبدو أنّه انقلاب تقوم به لإنهاء لبنان الذي نعرفه”.
علاقات لبنان مع العرب
أما في عنوان علاقات لبنان الخارجية، وتحديداً مع دول الخليج العربي، وتمنّعه عن تنفيذه القرارات الدولية، فلا بدّ من الإشارة إلى سلسلة مواقف صادرة عن الفاتيكان تضغط بهذا الاتجاه.
زيارة غالاغار الأولى للبنان منذ تعيينه سبقتها زيارة أمين سرّ دولة الفاتيكان بيترو بارولين بعد انفجار مرفأ بيروت في آب 2020، قبل أن يدعو البابا فرنسيس رؤساء الكنائس إلى عقد مؤتمر حول لبنان في روما في تموز 2021. ثمّ توالت لقاءات الحبر الأعظم مع رؤساء الدول الكبرى في الفاتيكان، حيث حضر الملفّ اللبناني دائماً ملفّاً أساسيّاً. وفي كلّ هذه المحطّات كان يسعى الفاتيكان إلى دعوة لبنان إلى تصحيح علاقاته مع المحيط.
في عنوان الإصلاحات، تشير المعلومات إلى قناعة لدى الفاتيكان بأنّ عدم تنفيذها ليس من باب الصدفة، بل تتقصّده الطبقة السياسية لإيصال لبنان إلى القعر، في ما يبدو أنّه انقلاب تقوم به لإنهاء لبنان الذي نعرفه
لعلّ أبرز ما عبّر عن ذلك مشاركة الضيف غالاغار في اجتماع مجلس المطارنة الموارنة يوم الأربعاء في بكركي، الذي خرج عنه بيان أكّد “وجوب المعالجة الحازمة للخلل الطارئ على العلاقات اللبنانية – الخليجية، بحيث يوضع حدّ نهائي للتدخّلات في شؤون الأشقّاء والأصدقاء”. ورأى في هذا الخلل “مثلاً ساطعاً لحاجة لبنان الماسّة إلى إعلان حياده، فلا يعود ساحة للتجاذبات الخارجية وتستقيم حياته السياسية نحو التركيز على حسن إدارة أوضاعه وتواصله مع الخارج القريب والبعيد”.
وشدّد البيان الشهري على ضرورة “وصول الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي إلى اتفاق في مدى قريب، بما يفتح الباب واسعاً أمام المباشرة بالإصلاحات المطلوبة”، وأهميّة الحؤول بين التحوّلات السياسية الجارية “وبين احتمالات تأثيرها سلباً على الانتخابات النيابية والرئاسية”.
هكذا اختصر البيان عناوين الوزير الفاتيكاني الذي، على عكس ما أُشيع، لم يطالب بانتخابات رئاسية مبكرة.
متى يزور البابا فرنسيس لبنان؟
في إشارة لافتة عبّر غالاغار عن استعداد الفاتيكان لاستضافة حوار لبناني لبناني، مؤكّداً أنّه مشروط بتوافق لبناني. إذ يدرك أنّ التوافق ليس متوافراً بعد. علماً بأنّ الحوار إن حصل في حاضنة الفاتيكان، فإنّه يُعتبر سابقة في تاريخ الصرح، صاحب الدبلوماسية الصامتة. بما يؤشّؤ إلى أهمية لبنان النموذج بالنسبة إلى هذا الصرح الكبير. ويدرك الفاتيكان جيّداً أنّ لبنان المقبل على مفصل تاريخي يهدّد وجوده، بحاجة إلى عناية فائقة. وليست المظلّة الفاتيكانية، التي ترافق لبنان في هذه المرحلة، سوى دليل على إدراك إقبال تغيير جذريّ على لبنان.
في المعلومات أيضاً أنّ الفاتيكان منفتح على أيّ تغيير دستوري في لبنان شرط المحافظة على الصيغة الإسلامية المسيحية التي أرساها اتفاق الطائف. يومئذٍ كان الفاتيكان شريكاً في انتقال لبنان من زمن الحرب إلى زمن ما بعد الطائف. ويطالب متابعو هذه الزيارة البابا فرنسيس بزيارة لبنان لإطلاق نداء من أجل إنقاذه، لا الاكتفاء بإطلاق الصرخات من بعيد، ولا سيّما أنّه سبق أن زار قبرص التي تبعد عن بيروت نصف ساعة.
غير أنّ الفاتيكان لديه حسابات أخرى. وقد أكّد غالاغار رغبة وإرادة البابا فرنسيس زيارة لبنان، لكن يبقى أن نحدّد “متى” هذه الزيارة، كما قال من قصر بعبدا.
إقرأ أيضاً: الفاتيكان: لبنان بلا لبنانيّين؟
عليه، يقول المطّلعون على أجواء الفاتيكان إنّ الحبر الأعظم لن يزور لبنان إلا إذا توافق ذلك مع رؤية واضحة لصيغة الحلّ فيه، لأنّ أيّ زيارة له يمكن أن تؤدّي إلى مزيد من الإحباط ما لم يرافقها حلّ عمليّ للأزمة اللبنانية.
ختاماً: أعلن غالاغار أنّه سيعود إلى الفاتيكان ومعه تصوّر للأزمة، لكنّه لم يصل مع المسؤولين إلى رؤية مشتركة للحلّ. لذلك ستكون مهمّة الورشة المقبلة، التي سيعمل عليها الفاتيكان لمواجهة احتمال “زوال لبنان”، هي التوصّل إلى صيغة جديدة للحكم تحت سقف النموذج الإسلامي المسيحي. على أن تكون زيارة البابا فرنسيس للبنان، متى حصلت، مؤشّراً إلى ولادة لبنان الجديد.