دراسة: كيف نفهم سياسة الإمارات؟

مدة القراءة 9 د

لماذا دخلت الإمارات صراعات إقليمية بشكل مباشر؟ ولماذا خرجت الإمارات منها؟ ولماذا تسعى الآن إلى تصغير المشاكل؟

الدخول الإماراتي والخروج وتصغير المشاكل الإقليمية لها منطق وحسابات مدروسة وعميقة، ولها دوافعها وأهدافها الاستراتيجية.

يخطئ المراقب لسياسة الإمارات إن فهم سياستها الخارجية على أنّها:

1- انتقالية.

2- شخصانية.

3- كيديّة أو ثأريّة.

يؤكّد مسؤول خليجي مطّلع بشكل كبير على صناعة السياسة الإماراتية لسنوات طويلة، منذ عهد الوالد المؤسّس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، أنّ “الإماراتيين لا يتصرّفون بردّ فعل عصبيّ أو بتعالٍ. فقد تعلّموا من حكمة الشيخ زايد والتجارب، وبالاستعانة بمراكز دراسات خبيرة، أنّ ردّ الفعل يجب أن يكون مدروساً وأن يهدف إلى خدمة المصلحة العليا للبلاد والعباد مهما كان الثمن”.

من هنا يمكن فهم الآتي:

1- التمهّل في تعامل الإمارات مع ملفّ الاحتلال الإيراني للجزر الثلاث من أجل تجنّب إعطاء طهران تبريراً لتصعيد عسكري تسعى إليه.

2- الدخول الإماراتي إلى اليمن هدفه حماية الأمن القومي الإماراتي من الوقوع بين فكّي كمّاشة حصارٍ من إيران واليمن.

3- الخروج الإماراتي من اليمن ليس انسحاباً من الدور، لكنّه تعبير عن رغبة وطنية في إعادة بناء وتسليح وتدريب قوات يمنية وطنية مقاتلة ما زالت تحظى حتى الآن بدعم أبوظبي. وقد حقّقت هذه القوات تقدّماً ملحوظاً في مأرب وشبوه.

4- الأدوار الإماراتية في أفغانستان وليبيا واليمن هي جزء من رفع كفاءة الحالة القتالية للقوات الإماراتية التي لم تُتِح لها الظروف دخول حروب مباشرة.

5- وجود القوات الإماراتية في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة أو ضمن الهلال الأحمر الإماراتي في الأعمال الإغاثية ودعم الأعمال الإنسانية هما نوع من “الواجب النضالي”، ويهدفان إلى إبراز الدور الإنساني المتسامح لسياسة البلاد.

هذه مقدّمة واجبة لفهم ماذا يمكن أن تفعل الإمارات اتجاه التصعيد الإجرامي الحوثيّ ضدّها في الآونة الأخيرة.

أزمة الحوثيين

تدرك أبوظبي أكثر من غيرها أنّ الحوثيين مأزومون. لماذا؟

1- إيران مأزومة اقتصادياً، فانعكست هذه الأزمة بشكل واضح على وكلائها في بغداد وبيروت وغزّة ودمشق وصنعاء.

2- يتعرّض الحوثيون لضربات محكمة بفضل الإحداثيات الدقيقة التي تحدّدها طائرات التحالف لمراكز تخزين الصواريخ أو ورش تجميع الطائرات المسيَّرة أو مراكز القيادة والسيطرة.

3- يتكبّد الحوثيون خسائر كبرى في مناطق كانوا قد استولوا عليها واستقرّوا فيها متجاوزين اتفاقية استوكهولم. وتضمّ هذه المناطق شبوه ومأرب والحديدة ورأس عيسى.

4- خسر الحوثيون معنوياً رهان الأميركيين والأمم المتحدة عليهم بسبب غطرسة القوة التي مارسوها بالاستيلاء على المساعدات الإنسانية وباضطهاد وتعذيب المدنيين المعارضين لهم.

آخر أخطاء الحوثيين هي الضربات التي وجّهوها منذ أسبوعين لخزّانات وقود قرب مطار أبوظبي، ثمّ محاولتهم بعد مضيّ 36 ساعة إطلاق صاروخين باليستيّين تصدّت لهما بنجاح منظومة “تاد” التي تحمي العاصمة الإماراتية.

تدرك أبوظبي أنّ الأولوية المطلقة الآن هي “تجريم الحوثيين أخلاقياً ومعنوياً وسياسياً على المستوى الدولي، وإدخالهم في قائمة الميليشيا الإرهابية وليس الحزب السياسي”.

من هنا يمكن فهم السلوك الإماراتي الدبلوماسي الناجح فور الاعتداء على خزّانات الوقود، إذ استطاعت الإمارات استصدار قرار دولي بالإجماع في مجلس الأمن يدين السلوك الحوثي.

ما دور إيران؟

هنا يبرز السؤال: هل يمكن أن يكون الحوثيون قد فعلوها من دون الرجوع إلى “المعلّم الكبير” في طهران؟

تجيب الأحداث على السؤال من دون أدنى مجهود. وإذا كان ذلك صحيحاً في ضرب الخزّانات، فما هو تفسير المحاولة الثانية التي تلت الأولى بعد 36 ساعة، حين أطلق الحوثيون صاروخين باليستيّين على المنطقة نفسها؟

هنا يأتي السؤال الأهمّ: أيّ إيران تصدّق؟

هل تصدّق إيران التي أبلغت الشيخ نهيان بن مبارك، الذي حضر تنصيب الرئيس إبراهيم رئيسي في طهران، أنّها “تسعى إلى أفضل العلاقات مع الشقيقة الإمارات”؟ وهل تصدّق إيران التي أبلغت مستشار الأمن القومي الإماراتي عند زيارته الأخيرة لطهران بأنّها تمدّ يدها للتعاون مع الإمارات في كلّ المجالات؟ أم تصدّق إيران التي أمرت باختطاف سفينة شحن ترفع العلم الإماراتي، وبقصف خزّانات وقود قرب مطار أبوظبي، ثمّ تعاود الكرّة بعد 36 ساعة؟

إيران هذه مثل “بندقيّة بماسورتين”، إحداهما فيها مقذوف والثانية خالية تماماً، لكنّها في الحالتين سوف تصيبك بضرر.

السلوك الإيراني في أدناه ابتزازيّ، بمعنى أنّه يهدف إلى التعارض معك تحت خطر الإرهاب، وأقصاه هو أن يتحرّك إلى مواجهة عسكرية مباشرة يتمنّاها من أجل استنزاف مواردك وإيقاف الإصلاح والنهوض والتنمية.

تمهيد للنتائج “النووية”

ما تقوم به إيران هو تمهيد لشكل المنطقة الجديد التي لا تحتمل إلا احتمالين: إمّا أن يتمّ اتفاق نووي أو لا يتمّ:

– إذا تمّ ستوظّف إيران الأرصدة المفرج عنها في العبث والسيطرة وتوسيع النفوذ في المنطقة، خاصة بعد إعادة التموضع الاستراتيجي الأميركي الذي خلق فراغاً استراتيجياً وارتباكاً سياسياً وأمنيّاً غير مسبوق.

– وإذا لم يتمّ الاتفاق، وهو احتمال ضعيف، فإنّ المنطقة سوف تشهد تسخيناً أمنيّاً وطائفيّاً غير مسبوق من بغداد إلى دمشق، ومن بيروت إلى غزّة، ومن صنعاء إلى ليبيا.

يتّضح مؤشّر ذلك كلّه بعمق شديد في أسلوب تعامل الإمارات مع حليفتها التقليدية: الإدارة الأميركية، كما ظهر أخيراً.

عاد مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان، بعد لقائه الشيخ محمد بن زايد قبل خمسة أسابيع في أبوظبي، بانطباع أكيد أنّ وليّ عهد أبوظبي “سوف يبدأ سياسة الجسور المفتوحة مع كلّ القوى الإقليمية والدولية بعد إعادة التموضع الأميركي الاستراتيجي من الشرق الأوسط إلى منطقة جنوب بحر الصين والمحيط الهادئ”.

يؤكّد مسؤول خليجي مطّلع بشكل كبير على صناعة السياسة الإماراتية لسنوات طويلة، أنّ “الإماراتيين لا يتصرّفون بردّ فعل عصبيّ أو بتعالٍ

كان اللقاء بين وليّ عهد أبوظبي ومستشار الأمن القومي صريحاً وشفّافاً، وقد تحدّث فيه الشيخ محمد بن زايد بلا مجاملة دبلوماسية وبدون تردّد في أن ينقل إلى سوليفان 3 عناصر أساسية:

1- تقدير الإمارات للخروج الأميركي من أفغانستان مفاده أنّ المنطقة مرشّحة لفراغ وارتباك، وهذا الخروج يمثّل دعوة لدول مثل إيران وقوى مثل جماعات الإرهاب التكفيري إلى إحداث توتّرات.

2- إنهاء الاتفاق النووي بين إيران والدول الـ5+1 من دون أيّ تعهّد من جانب طهران في ما يخصّ الصواريخ الباليستية أو التدخّل في شؤون المنطقة، هو خطر كبير على أمن الخليج والمنطقة.

3- بدأت الإمارات سياسة تصغير المشاكل إقليمياً، وسوف تدعم بقوة علاقاتها الدولية لتدعيم أمنها الوطني في مواجهة أيّ “خلل أو اضطرابات أو تصعيد في المنطقة نتيجة الفراغ الاستراتيجي الأميركي”.

عاد سوليفان إلى واشنطن وأبلغ مسؤولي البنتاغون أنّه “يشكّ في استمرار حماسة أبوظبي لإتمام صفقة طائرات “إف 35″ على الرغم من وجود تعهّد أميركي في عهد إدارة ترامب وموافقة إسرائيلية مكتوبة على عدم اعتراض تل أبيب على إتمام واشنطن لهذه الصفقة”.

تنتمي إدارة بايدن الحاليّة كلّها (سوليفان، بلينكن، برتز، ويندي شيرمان، أوستن) إلى تلك المدرسة العقائدية الديموقراطية التي نمت في عهد إدارة أوباما.

كان أوباما معجباً بشخص وليّ العهد الإماراتي، لكنّه كان يدرك أيضاً أنّه “مستعصٍ على التطويع أو قبول الضغط الأميركي”.

تدرك أبوظبي أنّ الأولوية المطلقة الآن هي تجريم الحوثيين أخلاقياً ومعنوياً وسياسياً على المستوى الدولي، وإدخالهم في قائمة الميليشيا الإرهابية وليس الحزب السياسي

سلوك وليّ العهد

سلوك وليّ العهد الإماراتي مع كلينتون وأوباما وترامب، والآن مع بايدن، هو “سلوك الصديق المستقلّ، وليس سلوك الحليف المسلوب الإرادة، وسلوك الشريك التجاري الذي يمتلك أهمّ سلعة استراتيجية في العالم، وهي الطاقة، وسلوك المشتري القادر على الوفاء الفوري بالتزاماته، وليس المنتظر للهبات والمساعدات الأميركية”.

يقول مصدر خليجي إنّ “دول الخليج العربي، وعلى رأسها الإمارات والسعودية، بدأت بالفعل فتح أبواب التعاون مع الصين وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي على مصراعيها، لضبط الارتباك الاستراتيجي عقب الخروج الأميركي من العراق وسوريا وسحب صواريخ الباتريوت من السعودية، وأخيراً الخروج المخجل من كابول”.

وأضاف المصدر قائلاً: “لن نقف مكتوفي الأيدي أمام الغموض الخطر، الخاصّ بأمن المنطقة، ولذلك سوف نعتبر كلّ عواصم العالم زبائن لنا نبيع ونشتري ونتعاون معهم بلا حدود حتى لو لم يتقاطع ذلك مع مصالح واشنطن”.

يعيدنا ذلك كلّه إلى الشيخ محمد بن زايد المهندس والقائد الفعلي لملفّ علاقات الإمارات بالعالم.

الفريق محمد بن زايد الإنسان، السياسي، العسكري، الدارس للاستراتيجية، ابن مدرسة والده، رحمه الله، يعرف على نحو دقيق متى يُصدر القرار، وفي أيّ اتّجاه، وفي أيّ توقيت.

يعرف الرجل متى يقاتل حتى لو ذهب إلى قندهار أو مالي أو صحراء ليبيا، ومتى يفاوض حتى لو ذهب إلى طهران أو دمشق أو أنقرة أو تل أبيب.

الخطأ الجسيم في تحليل أو فهم القرار الإماراتي ينبع من القراءة الخاطئة. فحينما يكون القرار بالقتال يتمّ تفسيره بأنّه مغامرة عسكرية، وحينما يتمّ الحوار والتفاوض يتمّ تصويره أنّه ضعف أو انسحاب من تحالفات.

توسيع شبكة التحالفات

ما تقوم به الإمارات الآن هو توسيع أكبر شبكة تحالفات إقليمية ودولية إدراكاً منها أنّنا نعيش في عالم شديد السيولة، عظيم الارتباك الاستراتيجي، ولذلك يتعيّن فيه تعظيم القوة الذاتية وتحصين التحالفات الإقليمية والدولية.

قد لا يدرك البعض أنّ 25 في المئة من طاقة اليابان تعتمد على الإمارات.

وقد لا يدرك البعض أنّ الخوف الأميركي الأعظم الآن مصدره طبيعة علاقة أبوظبي ببكين، خاصة بعدما سرّبت أجهزة الأمن الأميركية صوراً لقاعدة عسكرية صينية يتمّ العمل فيها سرّاً في ميناء خليفة.

وقد لا يعرف البعض أنّ أبوظبي التي اشترت 82 طائرة رافال و24 هليكوبتر فرنسية مقاتلة، تستثمر في الصناعات العسكرية مع كوريا الجنوبية والهند وإندونيسيا، وتتعاون في مجال التقنيات الدقيقة مع شركات إسرائيلية.

كما قد لا يعرف البعض أنّ الإمارات نشطة استثمارياً مع تركيا والهند وبريطانيا وفرنسا واليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا وإثيوبيا وجنوب إفريقيا وأستراليا والبرازيل.

إقرأ أيضاً: الخليج “أكثر لبنانيّة” من ساستنا!

تقوم الإمارات بذلك كلّه تحت سقف قواعد أساسية:

1- لا دولة بديلة عن أخرى في التعاون معها.

2- لا سلاح بديل عن الآخر، سواء كان صينياً أو فرنسياً أو أميركياً أو روسياً.

3- لا صفقات من أيّ نوع الهدف منها الإضرار بالآخر، بل الغاية دائماً تدعيم المصالح العليا.

المطلوب هو فهمٌ أكثر عمقاً وأكثر حياديّةً وعلميّةً للقرار الإماراتي.

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…