قال مسؤول أميركي وآخر أوروبي إنّ إيران تمارس منذ أسابيع التصعيد عبر ميليشياتها الإرهابية للتأثير في مفاوضات فيينا. هل هذا صحيح؟ وما العلاقة بين التصعيد في العراق واليمن؟ وهل يؤثّر ذلك على الأميركيين والأوروبيين المشاركين في مفاوضات النووي بفيينا؟ وإذا كان ذلك صحيحاً أو ممكناً فلماذا الهدوء في لبنان، وبخاصةٍ جنوبه؟ والمفروض أنّ الاضطراب على حدود فلسطين المحتلّة يدفش الأميركيين والإسرائيليين أكثر باتجاه التسريع في التفاوض من خلال التنازلات، لشراء الهدوء.
في العام 2015 وبعد حصول إيران على الاتفاق مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، وفي معرض تصويره باعتباره انتصاراً كبيراً، فإنّ الرئيس الإيراني حسن روحاني وقائد الحرس الثوري آنذاك قاسم سليماني، شكرا حزب الله لإسهاماته البارزة في حصول إيران على الاتفاق. آنذاك، مثل اليوم، كانت إسرائيل شديدة المعارضة لاتفاق العمل المشترك والشامل بين الغرب وإيران. وما كان حزب الله ضاغطاً على إسرائيل بعد معركته معها عام 2006. فلماذا شكر الرئيس الإيراني وسليماني الحزب المسلَّح؟ ثمّ لماذا ينبغي أن يستجيب الأميركيون لإيران إذا ضغطت عبر ميليشياتها في العراق وسورية واليمن؟
بغضّ النظر عن تطوّرات علائق إيران مع الولايات المتحدة، تظلّ مشكلات العرب الخليجيين والمشارقة مع إيران هي الأفدح والأكبر. وما لم تنكسر الميليشيات الإيرانية أو تنحسر في اليمن والعراق، فإنّ العلاقات العربية مع الجوار الإيراني ستظلّ شديدة الاضطراب
الظروف اليوم غيرها عام 2015. فيومها كان الحزب المسلّح والميليشيات الإيرانية الأُخرى تخوض الحرب على الشعب السوري ولمصلحة بقاء بشّار الأسد حاكماً في سورية. وظهرت وقتها واقعات داعش في العراق وسورية، وتدخّل الروس لمصلحة الأسد أيضاً، وصار العنوان العامّ: مكافحة الإرهاب، وهو الأمر الذي أفاد منه الإيرانيون والأسد. يومها توقّف الكلام عن إسقاطه، وصار الأميركيون والغربيون حلفاء عمليّين للروس وإيران في ذاك الصراع، وإن أنكر الأميركيون على الدوام أنّهم غضّوا النظر عن التدخّل الإيراني والروسي في سورية.
لا يفيد في هذا المعرض ذكر الوقائع الأُخرى التي تقول إنّ الروس، وقتها، والإيرانيين وميليشياتهم، إنّما قاتلوا قوات المعارضة (المعتدلة) فيما وقع عبء مكافحة داعش على الولايات المتحدة وحلفائها، وبينهم دول عربية. وذكر ذلك هنا غير مفيد لأنّ الإيرانيين وميليشياتهم، بل والروس أيضاً، استظلّوا وقتها فعلاً بالمظلّة الأميركية المنشورة لكلّ مَنْ أعلن عن دخوله في الحرب الأميركية على الإرهاب الداعشي. ثمّ إنّ الأسد (خصم الإرهاب العظيم!) بقي فعلاً في السلطة، على الرغم من استمراره في قتل شعبه، وإيران والروس تغلغلوا بالفعل، بإرهاب وبدون إرهاب، في ذلك البلد العربي البائس والمخرَّب. فإذا استحقّ الحزب المسلَّح الشكر من إيران، والسكوت من الولايات المتحدة، والتقدّم في مفاوضات النووي باعتبار إيران حليفاً محتملاً للولايات المتحدة في المستقبل بعد الاتفاق، كما تأمّل باراك أوباما، فإنّ ضغوط الحروب الإيرانية على العرب المغضوب عليهم، أفادت إيران بالتأكيد في الحصول على الاتفاق النووي الذي ما يزال كثيرٌ من الأميركيين، وهم على مشارف اتفاقٍ جديد، يعتبرونه سيّئاً، وتعتبره إسرائيل مؤامرةً على أمنها.
لماذا الهدوء في لبنان؟
تُصعّد إيران الآن في العراق سياسياً وعسكرياً، وبشكلٍ أكبر في اليمن. ولا يبدو أنّ هناك تحرّكات لافتة لميليشياتها بسورية، وكذلك في لبنان لا علاقةً لذلك بمفاوضات فيينا، بل بمستقبلها في مناطق النفوذ التي كسبتها عبر عقدٍ ونيّف. والنفوذ الكبير هذا يبدو مهدَّداً في العراق واليمن، ولا يبدو أنّ هناك تهديداً في المسرح السوري الجامد منذ العام 2019، كما تبدو منطقة النفوذ اللبنانية مستكينةً بدون حدود. بل إنّ الحزب المسلّح يتحبّب إلى رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل بأن يقبل استئناف المفاوضات على الحدود البحرية مع إسرائيل، بوساطةٍ أميركية.
هكذا أفادت إيران عبر ميليشياتها من الظروف المحيطة عام 2015، لكنّها لا تستفيد اليوم من التصعيد في مفاوضات فيينا، بل المطلوب المسح بيدٍ هادئةٍ اليوم في سورية وكذلك في لبنان. والقسوة في اليمن والعراق بسبب الخشية من فقدان المنطقتين. في لبنان وسورية (على الرغم من الضربات الإسرائيلية) ما يزال الوضع غير مقلقٍ إذا ظلّت إيران بعيدة عن الجولان والحدود الأردنيّة، فيما هو مقلقٌ لإيران في العراق واليمن.
إنّ المعروف أنّ التطلّعات في كلّ المنطقة تشتدّ للخلاص من التدخّلات الميليشياوية الإيرانية. وما عاد ذلك قصراً على أهل المنطقة وحكوماتها، بل هناك جهات أميركية وأوروبية صارت تدعم ذاك الخلاص من طريق الشعوب والحكومات والانتخابات. ولهذه الجهة فإنّ التصعيد ربّما يكون مفيداً في إنذار الغربيين قبل الاتفاق النووي وبعده أنّ شيئاً لن يتغيّر. بل ويصرّ الإيرانيون على أنّ المفاوضات ممكنةٌ مع العرب ولا داعي للتدخّل الدولي. بيد أنّ السعوديين والإماراتيين تفاوضوا مع الإيرانيين طوال العام 2021 بدون نتائج حتى الآن. ويميّز بعض المراقبين بين العراق واليمن وسورية من جهة، ولبنان من جهة ثانية. فالتدخّل الإيراني في العراق واليمن له جانب عقائدي، وفي سورية هناك مصالح استراتيجية كبرى لإيران، فيما ليس الأمر كذلك في لبنان. ومن خلاله يمكن الإشارة لإسرائيل أنّ “الصفقة” معها ممكنة مع حضورٍ أميركي.
وما يزال مراقبون يراهنون على حدوث صراعٍ إيراني مع الروس في سورية، لكنّ الإيرانيّين يذهبون باتّجاه تجديد الاتفاق الاستراتيجي مع روسيا. وروسيا لها مصلحة في إظهار الاقتراب من إيران بسبب تفاقم التباعد الآن والصراع مع الولايات المتحدة على أوكرانيا وعلى غير أوكرانيا. فليس من المنتظر حدوث خلاف بين الطرفين، على الرغم من استيلاء الروس على مرفأيْ اللاذقية وطرطوس، وإقصاء إيران ربّما باتّجاه بانياس.
علاقة مع إسرائيل
في الخلاصة: إيران تصعّد في العراق واليمن لأنّها تواجه تحدّياتٍ بارزة، ولأنّها تريد الاستمرار في الاستيلاء على الملفّ الشيعي العربي وغير العربي. ولا تصعّد في سورية للتوافق مع الروس حاليّاً. أمّا في لبنان فهي لا تصعّد لأنّها لا تواجه تحدّيات، ولأنّها تريد علاقةً ممكنةً مع إسرائيل.. ومن ورائها الولايات المتّحدة.
إقرأ أيضاً: نهاية إسرائيل
تقول إيران إنّ الاتفاق على النووي لا علاقة له بالباليستيّات والمسيَّرات والميليشيات. وتوحي بإمكان التفاوض على ذلك كلّه منفصلاً من بعد مع العرب. لقد بذلت إيران كثيراً لصنع مناطق النفوذ. ولذلك حتى وإن قبلت التفاوض، فإنّ كلّ تنازُلٍ يبدو خسارةً قد لا يمكن تعويضها حتى بأثمانٍ مرتفعة.
بغضّ النظر عن تطوّرات علائق إيران مع الولايات المتحدة، تظلّ مشكلات العرب الخليجيين والمشارقة مع إيران هي الأفدح والأكبر. وما لم تنكسر الميليشيات الإيرانية أو تنحسر في اليمن والعراق، فإنّ العلاقات العربية مع الجوار الإيراني ستظلّ شديدة الاضطراب.