في كلّ مرّة أقصد صديقي الصرّاف، أمكث لديه لبرهة بحجّة السلام والكلام عن أحوال البلد. في الدقائق القليلة التي أقضيها لديه، أراقب سلوك الناس وأرصد انطباعاتهم بعد سؤالهم إيّاه عن سعر الصرف. كنت أتعجّب دوماً حينما أراهم يفرحون لارتفاع سعر الصرف، أو عندما يتراجع بعضهم عن صرف دولاراتهم حينما يسمعون بانخفاضه. كان ظهور علامات الحزن والخيبة على وجوههم يفاجئني، وكنت أكظم ذهولي في كلّ مرّة، ثمّ أقول في سرّي: “نحن شعب مجنون، يفرح لارتفاع الدولار ويحزن لانخفاضه”.
لكن مع بدء انخفاض سعر الصرف بشكل دراماتيكي قارب 42% منذ بداية السنة إلى اليوم (هبط من 34 ألفاً إلى 20 ألف ليرة)، عرفت السبب خلف هذا الحزن. اكتشفت مبرّراته وتأكّدت أنّ انطباع الناس صحيح وفي مكانه، وأنّ تراجعهم أو تردّدهم أو حتى حزنهم لانخفاض الدولار، ما كان يخلو من بُعد نظر واستشراف للواقع. فكيف لا ونحن نعيش في بلد العجائب: فلبنان هو الدولة الوحيدة في العالم التي يزيد فيها مصروف المواطن إن انخفض سعر الصرف… وكلّ ذلك بسبب غياب رقابة الدولة.
خطوة سلامة جاءت نتيجة إلحاح رئيس الحكومة نجيب ميقاتي على خفض سعر الصرف بأيّ وسيلة من أجل تمرير الموازنة
يحاول الحاكم رياض سلامة منذ بداية السنة خفض سعر الصرف. لكنّ الجميع يعلم أنّ خطوته “مصطنعة”، بل هي حتماً “مؤقّتة”، ولا يمكن أن تستمرّ طويلاً. ولهذا يترقّب المواطنون ويتحيّنون لحظة تخلّيه عن هذه السياسة “المدمّرة والمبخّرة” لمخزون “المركزي” من الدولارات، بمعزل عن مصدرها، وبلا أسباب تجعل الانخفاض مستداماً. خصوصاً أنّ خطوته هذه لم تواكبها وزارة الاقتصاد وأجهزتها بمكافحة جشع التجّار وتغوّلهم (وزير الاقتصاد مروان سلام يهتمّ لكيفية تثبيت أقدام زوجته وشقيقه في الحقل العامّ بدل مكافحة الغلاء). فجاءت خطوة “المركزي” لتكشف قصور أجهزة الدولة عن القيام بواجباتها، وزرعت انطباع “الخوف من انخفاض سعر الدولار” في نفوس الناس.
قد يقول قائلٌ إنّ ما يقوم به الحاكم مشروع وصائب.
نعم، هذا صحيح لأنّ سلامة يحافظ على الليرة متلحّفاً بقانون النقد والتسليف، وهذه صلاحيّته. لكنّ هذا الأمر ظاهريّ فقط. لأنّ الأصحّ طرح السؤال التالي: لماذا تأخّرت خطوته نحو سنتين ونصف سنة؟ ولماذا تخلّى عن هذه الصلاحيّة منذ اندلاع الانتفاضة في نهاية العام 2019؟ ومن هنا يمكن طرح ألف سؤال وسؤال عن هذا التوقيت: لماذا يقوم سلامة بذلك اليوم؟
ثمّة 3 آراء لتفسير هذه الخطوة:
1- خطوة سلامة جاءت نتيجة إلحاح رئيس الحكومة نجيب ميقاتي على خفض سعر الصرف بأيّ وسيلة من أجل تمرير الموازنة، التي لا تخلو من إعادة تسعير كلّ الخدمات والضرائب والرسوم على سعر صرف جديد. كما يحاول ميقاتي تمرير “الخوازيق” بأقلّ أضرار واعتراضات شعبية وسلطوية ممكنة، خصوصاً قبل الانتخابات النيابية. لأنّ الأفضل أن يكون سعر الصرف منخفضاً كي يتقبّل المواطنون الضرائب على سعر الصرف لحظة إقرارها.
2- من المرجّح أن تستمرّ “لعبة” سلامة حتى الانتخابات في أيّار. وبذلك يكون قد هدّأ من روْع السوق، وأعطى الناس فرصة لأن تلتقط أنفاسها وتحصر تركيزها بالانتخابات وتنسى هموم كسب لقمة العيش لبعض الوقت.
3- السلطة السياسية “مفلسة” ماليّاً نتيجة الأزمة، ومتروكة من الجميع دوليّاً. لكنّ انخفاض سعر الصرف إلى هذه المستويات يسمح للجميع (سلطة ومعارضة، ومجتمع مدني…) بتخزين الدولارات، وذلك استعداداً لضخّها خلال الانتخابات التي ستكون الأسوأ في تاريخ لبنان، بحسب أغلب آراء المراقبين، نتيجة تهافت جميع الكتل والمرشّحين على هضم بعضهم بعضاً، وبسبب عَوَز الناس وقدرة هذه الدولارات على قلب النتائج، وحمل بعض الشخصيات الميسورة والطارئة على السياسة إلى الندوة البرلمانية. وهذا يعني أنّ سلامة يموِّل بطريقة غير مباشرة الحملات الانتخابية للجميع، لأنّ المجلس المقبل هو المجلس الذي سينتخب الرئيس الجديد، وحلم الرئاسة لم يغِب يوماً عن بال الحاكم.
في المدى المنظور، لا يبدو أنّ “المركزي” سيتوقّف عن ضخّ الدولارات، حتى لو كان ذلك من جيوبنا ومن مداخيلنا ومدّخراتنا الدولارية، لكنّ الأكيد أنّ هذه “الهمروجة” لا بدّ أن تنتهي. ستتوقّف يوماً ما حين يعجز سلامة عن الاستمرار بالضخّ. عندها سينفجر سعر الصرف في وجوهنا جميعاً، وقد يكون ارتفاعه أشدّ قسوة ممّا شهدناه من قبل، إذ تكفي الإشارة إلى ما قالته وكالة “موديز” قبل أيام، مؤكّدةً أنّ الآليّة المتّبعة من مصرف لبنان لبيع الدولار “الفريش” على سعر منصّته “لن تحقّق استقراراً طويل الأمد في سعر الصرف، ولن تغيّر كثيراً في مستويات التضخّم”.
يحاول الحاكم رياض سلامة منذ بداية السنة خفض سعر الصرف. لكنّ الجميع يعلم أنّ خطوته “مصطنعة”، بل هي حتماً “مؤقّتة”
كيف يقوم سلامة بهذه الآليّة؟
يجفّف مصرف لبنان الليرات من السوق، خالقاً طلباً حادّاً على الليرة التي أمست اليوم بمنزلة “عملة صعبة” بدلاً من الدولار. هذه الخطوة كانت تحصل في الظروف العادية من خلال رفع سعر الفائدة على الليرة. وبما أنّ المصارف باتت مجرّد ماكينة ATM وظيفتها أن يسحب منها المودعون الأموال لا أن يودعوا أموالهم فيها، فقد اضطرّ سلامة إلى التدخّل بـ”الكاش” من خلال “صيرفة” ليضخّ بواسطتها الدولارات عبر المصارف، وهي بدورها صارت تُلزم العملاء اليوم بقبض مستحقّاتهم بالدولار وبسعر أعلى من سعر “السوق الموازي”. أي بخسارة على من يقبض.
بهذه الطريقة يضطرّ المواطن إلى صرف دولاراته لدى الصرّافين، وبذلك أيضاً يكون “المركزي” قد سحب الفائض من بين أيدي الصرّافين والمضاربين لمصلحة الاستهلاك، لأنّنا نصرف الدولارات بهدف الاستهلاك.
بعد ذلك، يعيد “المركزي” شفط هذه الليرات مجدّداً من خلال إلزام المستوردين بتأمين الليرات لقاء بيعهم دولارات جديدة عبر “صيرفة”، تاركاً بذلك ما تيسّر من الليرات بين أيدي الناس… وكلّنا بات يلاحظ شحّ الليرات، وعدم قدرتنا على سدّ حاجاتنا كما من قبل إلّا من خلال أموالنا الدولاريّة. ولأنّ رواتب اللبنانيين (95% منهم بحسب “الدولية للمعلومات”) بالليرة اللبنانية باتت متواضعة ولا تكفيهم للوفاء بالتزاماتهم الشهرية، فإنّ الناس باتت تعتمد على استخدام مدّخراتها الدولارية التي تتأتّى من 3 مصادر:
1- مداخيل من الخارج على شكل رواتب أو مساعدات من المغتربين.
2- مدّخرات على شكل ودائع مصرفية بات أصحابها ملزمين بسحبها بالدولار.
3- مدّخرات دولارية “فريش” مخزّنة في المنازل.
في الحالات الثلاث، يحتاج المواطنون إلى تحويل هذه الأموال إلى ليرات من أجل الاستهلاك، وهذا يخلق طلباً حادّاً على الليرة، ويتسبّب بانخفاض الدولار من نحو 34 ألف ليرة إلى 20 ألفاً أو أكثر بقليل (أسعار الصرف تتغيّر يوميّاً)، أي بانخفاض بين 42% و45%. أمّا أسعار السلع (وهنا نعود إلى سبب حزن الناس وأساهم من انخفاض الدولار) فلم تنخفض أكثر من 15%، وربّما أقلّ لبعض السلع، وهذا يعني أنّ المواطن يتكبّد خسارة مضاعفة: في المرّة الأولى حين يصرف دولاراته، وفي المرّة الثانية حين يشتري السلع.
فالسلعة التي كان المواطن يشتريها بـ100 ألف ليرة لبنانية وكانت تساوي 3 دولارات بدولار 34 ألفاً (إن لم يكن أكثر)، بات سعرها 85 ألفاً (انخفاض 15%)، لكنّ قيمتها على دولار 19 أو 20 ألفاً هي نحو 4 أو 4.5 دولارات، أي أنّ سعرها قد زاد عمليّاً زهاء 50%.
إقرأ أيضاً: 6 أجنحة تنبت للدولار: هل سيحلّق مجدّداً؟
وهكذا باتت كلّ 100 دولار نصرفها لدى الصرّاف تساوي، مقارنة بأسعار السلع التي سنشتريها على سعر 30 ألفاً وما فوق، قرابة 50 دولاراً فقط. بمعنى آخر: إن كنت تصرف 100 دولار لسدّ العجز في مشترياتك، فإنّك اليوم ستصرف 200$ بدل 100$ على الرغم من انخفاض سعر الصرف إلى 20 أو 19 ألفاً… وهنا تحديداً تكمن خسارة الناس.
لا يمكن اعتبار خطوة سلامة إيجابية ما لم تتدخّل أجهزة الدولة من أجل توأمة سعر الصرف مع أسعار السلع كلّها، وإلّا سيظلّ المواطن يتكبّد خسارة فادحة في قدرته الشرائية كلّ يوم.