ماذا يفعل المرء لو كان مكان سعد الحريري؟ لو كان يقيم فعلاً في ظلّ الشروط الخاصّة والعامّة التي يعيشها الرجل.
في العالم المجرّد، ستعثر على مئات الإجابات التلقائيّة والسهلة أو المعقّدة، وفق منطق الحسابات العاقلة والموضوعيّة. بيد أنّ العقلانيّة الصرفة وهمٌ مبالغٌ في تقدير قيمته.
نسبة كلّ الأفعال والقرارات إلى العقل، جحيم لا يُطاق، وهو ما يُفرَض اليوم على رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، بشأن قراره العزوف عن الترشّح في الانتخابات المقبلة. ما الذي سيحلّ بالمشروع السياسي الذي يمثّله؟ ما هو مصير جمهوره؟ كيف سينعكس الأمر على حلفائه وخصومه؟ إنّه جحيم العقلانيّة الصرفة.
سعد الحريري ليس أنانيّاً بمعنى تفضيل أبنائه على كلّ ما له صلة بالمصلحة العامّة
ما مرّ به الحريري من محن، خاصّة وعامّة، جعل منه بالضرورة إنساناً مختلفاً. سأترك الحكم على ما إذا كان أفضل أو أسوأ لأهواء القرّاء. ما أنا معنيٌّ به هو التواضع أمام حقّ الرجل بالعاطفة، لا العقل وحده، وحقّه، كإنسان، أن تحكم العاطفة بعضاً من قراراته، ومعنيٌّ أيضاً بالتمهّل أمام فهم دوافعه وكيفيّة تفكيره.
كيف يفكّر سعد الحريري؟ والأهمّ ما هي الخلاصة العامّة والوطنية التي تعنينا جميعاً، من خلف الدراما السياسية المندلعة حول ما إذا كان سعد الحريري سيخرج كليّاً أو جزئيّاً من الحياة السياسية اللبنانية؟
في الكثير الذي أعرفه، كثيرٌ ممّا لا يُقال ولا يُكتب، إلا حين تصير المادّة جاهزة للتاريخ، وهي ليست كذلك الآن. لكنّ ثمّة قصّتين تفيدان في فهم الحالة النفسية والذهنية التي حكمت الكثير من قرارات الرجل.
للحريري ثلاثة أولاد، لولوة وحسام وعبد العزيز، وزوجة في منتهى الدماثة والتواضع.. وهو الأب الشابّ الذي تأبّط الموت منذ أن ورث عباءة أبيه الشهيد رفيق الحريري.. مرّة قال لي: أنا أعرف معنى أن تفقد أباك لأنّني فقدت أفضل الآباء. ما لا أريده لأبنائي، هو أن يعيشوا التجربة نفسها، ويكابدوا الألم إيّاه. ليس الفقد وحسب، بل فداحة الظلم، الذي لا تتراخى وطأته.
سعد الحريري ليس جباناً. لا أقول هذا ممالأةً، وأنا في موقع خلاف شخصي معه، يتمسّك كلٌّ منّا فيه بملامة صارمة للآخر. إلا أنّ الأبناء “مجبنة” كما يقول حديث نبويّ صحيح. وتصير المجبنة أشدّ في ظلّ الفقد واليُتم والخسارة التي تشبه ثقباً أسود يسحب نحوه أسباب الأمل..
وسعد الحريري ليس أنانيّاً بمعنى تفضيل أبنائه على كلّ ما له صلة بالمصلحة العامّة. وهذا مدخل ملائم للقصّة الثانية.
يحضر الأب مرّةً أخرى. يحضر في عبارة “أنا بيّ السُنّة” التي صدح الحريري بها يوماً، في غير موقع سياسي وبدرجة من الأحقّيّة يمكن الاختلاف حولها.
وقف الحريري، بيّ السُنّة، أمام هول الجريمة الأسديّة بحقّ السوريين، وقرّر، كما سمعت منه مراراً، أنّه لن يكون سبباً في تهجير سُنّة لبنان وإسكانهم خيم اللجوء إذا ما قرّر أن يمضي في لعبة الحرب الأهليّة، التي كانت حينذاك البديل الوحيد عن سياسة التسوية والاسترضاء… إسترضاء ميليشيا حزب الله..
يقودني السرد المختصر أعلاه إلى سؤال يتجاوز شخص الحريري إلى الحريريّة كظاهرة. هل الحريريّة لا تزال ملائمة للبنان في ظرفه المحلّي والإقليمي الراهن؟ أو الأدقّ، هل لبنان الراهن ملائم للحريريّة؟
لنعُد قليلاً إلى الأسس والبديهيّات. الاسترضاء، هي الكلمة المفتاح التي تعرِّف الخارطة الجينيّة السياسية للحريريّة. الحريرية ليست مشروع مواجهة مباشرة، بل مشروع تسلل دائم خلف خطوط المشاريع القصوى، وموهبة خاصّة في عقد التسويات..
تسلّل رفيق الحريري الأب خلف مشروع حافظ الأسد، لبناء بلد يمكنه أن يكون نقيض سوريا الأسد، من دون الاصطدام بها. رفيق الحريري نفسه هو الحاصل الطبيعي للتسوية السعودية السورية التي ورثت ياسر عرفات عبر مسار معقّد امتدّ منذ اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982 وصولاً إلى حرب تحرير الكويت عام 1990.
بالاسترضاء، روّض رفيق الحريري ضبّاط الأسد في لبنان. بالاسترضاء روّض زعماء الميليشيات واشترى لنفسه الوقت، ولو أقلّ ممّا يشتهي، لإعادة إعمار بيروت.
عبقريّة رفيق الحريري، وثروته الهائلة، سمحت له بتجيير “الاسترضاء المادي” لخدمة واحد من أضخم مشاريع إعادة إعمار الأوطان منذ مشروع مارشال بعد الحرب العالمية الثانية في اليابان وألمانيا.
بالاسترضاء، ابتكر رفيق الحريري قواعد للتعايش بين مشروعيْ الإعمار وما يُسمّى المقاومة، حين كان حزب الله، في الغالب، قوّة داخليّة ذات أدوار خارجية تقنيّة محسوبة بدقّة، قبل أن تصبح ميليشيا حزب الله قوّة إقليميّة في الغالب تقيم قيادتها في لبنان.
وكان هذا الاسترضاء يتفاعل في بيئة استراتيجيّة ملائمة، تتمثّل بمظلّة واسعة فوق لبنان، عبّرت عنها العلاقات الدولية لرفيق الحريري، ومساحة واسعة من الإجماعات المشتركة حول لبنان بين أركان هذا النادي الأمميّ.
فأيّاً تكن جلافة مشروع حافظ الأسد في لبنان، إلا أنّها لا تُقارَن بجلافة مشروع ولاية الفقيه وأثقالها.
لا شيء من ذلك توفّر لسعد الحريري. ظلّ يمارس الاسترضاء في بيئة تتغيّر أسرع من قدرة الحريريّة على تغيير وظيفتها وعقليّتها.
فلا الزمن زمن إعمار ولا الاسترضاء يستولد مرتكزات للاستقرار.
إيران زلزال هائل في المنطقة، انطلق بعد إسقاط نظام صدّام حسين واغتيال الحريري ورحيل ياسر عرفات. كلّ محاولات استرضائه انتهت إلى تشجيعه على المزيد من العدوان، ومفاقمة حدّة العراقيل أمام الحدّ الأدنى من الإنجاز. التحالف الرباعي لم يمنع حرب تموز 2006، ولا فَرْمَل شهوات تغيير النظام التي هيمنت على حوارات 2007، ولا منع 7 أيار عام 2008، ولا حال الاسترضاء دون إسقاط حكومة سعد الحريري عام 2010.. ولا فتح الاسترضاء باب الفرصة أمام لبنان واللبنانيّين بعد التسوية الرئاسية عام 2016..
أزعم أنّ الحريري كان صادقاً في التسوية، كمدخل للإنقاذ، وكان يأمل أنّه باسترضاء حزب الله، وانتخاب مرشّحه الرئاسي الجنرال ميشال عون، سيمهّد لإطلاق خطّة إنقاذ اقتصادي. كلّه سراب.
ماذا تفعل لو كنتَ سعد الحريري؟
لم تتغيّر قواعد اللعبة وحسب. تغيّرت اللعبة نفسها التي تلعبها الحريريّة. ومع كلّ لعبة تأتي مهارات وقواعد وذهنيّة وطريقة تفكير. كلّ ذلك لم يعُد يلائم اللعبة التي تلعبها إيران في لبنان والمنطقة.
إقرأ أيضاً: نعود ونلتقي..
لسعد الحريري الكثير، وعليه الكثير. بيد أنّ المسألة تتجاوز كفاءته وسياساته وقراراته.
للرجل الآن كلّ الحق في أن يتعب وأن يقرّر أن يرتاح، وأن ييأس، وأن نكفّ جميعاً عن دفعه إلى أدوار البطولة.