حطّ سعد الحريري رحاله في بيروت. والكلّ ينتظر ما في جعبته:
البعض يجزم بنهائيّة موقفه من الانسحاب والذهاب نحو استراحة سياسية قد تدوم لسنوات عديدة، مستندين في ذلك إلى معطيات ثابتة تتحدّث عن وعود قطعها الرجل في هذا السياق لدول وجهات وشخصيّات معنيّة بالشأن اللبناني بشكل عامّ، وبالبيت السنّيّ على وجه الخصوص.
أمّا البعض الآخر فيؤكّد عودته إلى لعب دوره الطبيعي ضمن المعادلة السياسية، كواحد من الأضلاع الأساسية والمركزية في التركيبة الداخلية، معتبرين أنّ كلّ ما يُحكى عن ابتعاد أو استبعاد لا يعدو كونه اجتهادات ملغومة لا تستند إلى أيّ أساس أو منطق، ناهيك طبعاً عن المحاولات الحثيثة والمستمرّة لذرّ الرماد في العيون.
البعض يجزم بنهائيّة موقفه من الانسحاب والذهاب نحو استراحة سياسية قد تدوم لسنوات عديدة، مستندين في ذلك إلى معطيات ثابتة تتحدّث عن وعود قطعها الرجل في هذا السياق لدول وجهات وشخصيّات معنيّة
لسنا هنا في موقع الحسم بين هذا المنطق وذاك، ولسنا أيضاً في موقع التكهّن بما قد يُقدم عليه من خطوات في المرحلة المقبلة. يكفي أن نتقمّص دوره وحالته الراهنة، وأن نقارب الأمور بمنطق هادئ وعاقل، بعيداً من الاندفاعات الغرائزية أو التحاملات المصحوبة بالمواقف المسبقة.
لو كان لنا أن نفعل ذلك، لجلسنا في مقعده، ثمّ لبسنا شخصه وشخصيّته، ودعونا ما تيّسر من أهل الحلّ والعقد، مَن نجتمع معهم في الرأي ومَن نختلف، فالمهمّ أنّهم ينتمون جميعاً إلى المزهريّة نفسها التي طالما امتزجت الحريريّة بتنوّعهم وخصوبتهم ورجاحة عقلهم، قبل أن تعود وتصير هويّتهم ومظلّتهم وظلّهم، وصولاً إلى الكبوة الكبرى، التي ستظلّ كبوتهم وعقدتهم وهاجسهم، منذ اللحظة الأولى التي شُطِب فيها رفيق الحريري، وحتى كلّ محاولة يائسة لاستنساخه أو إعادة إنتاجه.
ربط النزاع
كان الحديث ليبدأ من الفترة التي أعقبت سياسة ربط النزاع مع حزب الله، وهي الفترة الممهورة بدم محمد شطح: “لقد كان علينا أن نهادن. لبنان بلد صغير. ولم نكن يومها على خارطة أحد. لقد احترقت سوريا عن بكرة أبيها. هجّروا شعبها نحو أصقاع الأرض. وساووا مدنها وحواضرها وشوارعها بالأرض. حتى صارت باردة وموحشة وخالية إلا من الدم والركام. ماذا فعل لهم العالم؟ لا شيء. لقد قدّمت لهم واشنطن آنذاك مناظير مخصّصة للرؤية الليلية، وبعض الخوذ التي تحمي رؤوسهم من رصاصة أو شظيّة طائشة!
أليس العاقل من يتّعظ بغيره؟ هل كان المطلوب أن نشعل البلد في مواجهة مفتوحة مع الشيطان، وأن ننقل الحريق السوري إلى ديارنا، وأن نواجه جميعنا المصير نفسه من دون أن يلتفت إلينا أحد؟”.
حاول أحد الحاضرين أن يقاطعه معترضاً. فأجاب: “دعوني أكمل حديثي رجاءً:
“لاحقاً راهنتُ على التسوية السياسية سبيلاً وحيداً لخلاص لبنان وتخليصه من أزمته ومن شغوره ومن انزلاقه نحو الهاوية. كنت أمام خيار وحيد: ميشال عون أو الفوضى. حاولت على مدى عشرات الجلسات أن أحمل سمير جعجع إلى سدّة الرئاسة. لكنّني اصطدمت بما تعرفون وتذكرون. ثمّ ذهبت مرغماً نحو ترشيح سليمان فرنجية للهروب من الأمر الواقع، ولمحاولة فتح كوّة في الجدار المغلق، لكنّني اصطدمت أيضاً بما تذكرون وتعرفون.
لم يكن باليد حيلة. كان لا بدّ من تسوية تُخرِج البلاد من عنق الزجاجة. ونحن أهل تسوية. والحقيقة أنّني راهنتُ يومذاك على بداية تمايز وافتراق بين ميشال عون وحزب الله عقب إيصاله إلى رئاسة الجمهورية.
تُحمّلونني مسؤولية وتتناسون الاجتماع الشهير في بكركي الذي حصر الترشيح في أربعة أشخاص، ثلاثة منهم خرجوا باكراً من المنافسة، وبقي فيهم واحد وحيد هو ميشال عون.
وتتناسون أيضاً أنّنا كنّا بعد ذلك أمام اتفاق معراب، الذي حوّل الكثرة الكاثرة من الشارع المسيحي إلى مؤيّدين لوصول الرئيس القوي المدعوم من بيئته ومرجعيّاته السياسية والدينية والمناطقية.
ما هو المطلوب إزاء ذلك من سعد الحريري؟ أن يقف منفرداً في وجه هذا الاتفاق؟ وأن يتحمّل مسؤولية تعطيل البلد والمؤسسات؟ ألا تذكرون التصويب الممنهج على موقفنا ودورنا، والإشارة الدائمة إلى رغبتنا بقضم حقوق المسيحيين والاستيلاء على دورهم ورغبتهم وحضورهم وحتى وجودهم السياسي والاجتماعي؟”.
حاولت كوكبة من الحاضرين أن تُقاطعه. وقد تعالت الأصوات واحتدم النقاش.
جبران باسيل
أجابهم مجدّداً: “دعوني أكمل رجاءً.
على ماذا اتّفقتُ مع جبران باسيل؟ على القانون الانتخابي؟ على التعيينات؟ على رئاسة الحكومة؟ على آليّة عمل مجلس الوزراء؟ على إدارة المرحلة المقبلة؟ على تقاسم البلد؟ لست أذكر على ما اتّفقنا. لكنّه رجل نزق. يأخذ ويُطالب. وقد أردتُ أن أعطيه ما يطلب علّه يُبدّل سلوكه وسياساته. لكنّه فتح معركة وصوله إلى الرئاسة في اليوم الأوّل الذي وصل فيه عمّه إلى بعبدا. وقد استحالت الأمور مذّاك على النحو الذي تدركون وتعرفون.
ارتطمتُ بالسعوديّة نتيجة سلسلة من الأمور الشخصية التي أتركها لنفسي، ونتيجة جملة من الارتكابات السياسية أو الممارسات الخاطئة، آخرها كان إيصال ميشال عون والمهادنة مع حزب الله. ظننت يومها أنّني قادر على عقد التسويات بعيداً من الحاضنة العربية، وعلى الاحتماء بالمعادلة الداخلية. لكنّني استدركت متأخّراً أنّني فقدت كلّ رصيدي، داخلياً وعربياً ودولياً، ناهيك طبعاً عن الرصيد الشعبي الذي هبط على نحو غير مسبوق نتيجة ما اعتبروه تنازلات مجّانية، وارتطامات متكرّرة في الجدار نفسه، ثمّ أتت انتفاضة اللبنانيين في تشرين لتقضي على ما تبقّى من حضورنا في الداخل وفي الخارج.
حاولت وعجزت. مرّة ومرّتين ومرّات. صحيح أنّني تعاملت ببعض الأنانيّة مع تسمية الرؤساء المكلّفين، وقد أردت منذ البداية أن تعود الدائرة إليّ باعتباري مرشّحاً وحيداً لرئاسة أيّ حكومة جديدة، لكنّ الأمور جرت بعكس ذلك، وقد ظهرتُ في متنها، ثمّ على هامشها، باعتباري واحداً من المساهمين الرئيسيين في تعطيل البلاد التي انزلقت برمّتها نحو الانهيار الكبير.
الآن. دقّت ساعة الحقيقة. لست أودّ من هذه المطالعة أن أفتح نقاشاً عقيماً حول تفاصيل أو كبوات كثيرة صرنا نحفظها جميعها عن ظهر قلب. ولست أودّ أيضاً أن أخوض في ما صار ماضياً مضى، وقد مضى بالفعل. أنا فعلت ما أطيقه وأستطيعه. وقد أصبت وأخطأت. وبعض الأخطاء كانت ومدمّرة. ولذلك كان لا بد من اجتماعنا هذا، لأعلن أمامكم، وبالفم الملآن، أنّني أتحمّل المسؤولية الكاملة عن كلّ الخيارات الخاطئة، التي أوصلتنا إلى حيث وصلنا، وقد صار لزاماً عليّ أن أنسحب، ليس هروباً من المسؤولية أو خوفاً منها، بل حرصاً على إعادة الأمور إلى نصابها، بعدما بلغت مكانة يصعب فيها البقاء ضمن لعبة سياسية وضيعة تحترف المماحكة وتمتهن توليد الأزمات.
إقرأ أيضاً: الحريريّة في عزّ ارتباكها؟
لقد حان وقت الرحيل. سأرحل. وسأترك تجربتي شاهداً على ما اجتهدت فيه وأصبت، وعلى ما اجتهدت فيه وأخطأت.
هل من مداخلة أو سؤال؟”.
أجابوه:
لا يا دولة الرئيس. سنعود ذات يوم ونلتقي. إلى اللقاء.