الانتخابات النيابيّة: ماذا يفعل السُنّة؟

مدة القراءة 7 د

يختار الذي يريد العمل السياسي متى يدخل إليه أو يمارسه، لكنْ يصعب عليه كثيراً اختيار وقت الخروج أمّا في حالة سعد الحريري فإنّه دخل إلى السياسة مرغماً أو بحكم الضرورة بسبب استشهاد والده، وقد فضّلته الأُسرة ومساعدو الرئيس رفيق الحريري والسعوديّون على شقيقه بهاء (2005)، وها هو أخوه “الكَنود” يعود لينتقم لنفسه من شقيقه، كأنّما فوّتت الأُسرة وفوّت المسلمون وفوّت لبنان بتجاوز بهاء زعيماً نادر المثال.

وسأعود لذلك من بعد.

دخل سعد إلى الحلبة السياسية مرغَماً وبدون خبرةٍ ولا غرام. وهو الآن يخرج من العمل السياسي بصعوبةٍ وعسرٍ شديدين. قال في مجلسٍ حضرتُه: “في العام 2009 ما كنت أُريد تولّي رئاسة الحكومة لكنّني كنت فائزاً فوزاً كاسحاً في الانتخابات، وما كان الجمهور ليقتنع بعدم ترشيح نفسي لرئاسة الحكومة، أمّا الآن (يعني في العامين 2016 و2018) فأنا أرغب في تولّي السلطة الإجرائية لأنّني أريد تجنيب البلاد المأزق الذي توشك أن تتردّى فيه”.

تتصاعد الشائعات السياسية وغير السياسية عن أنّ المتحالفَيْن سمير جعجع ووليد جنبلاط يريدان التآلف مع بهاء

لقد شاءت الظروف أن يثبت أنّ الدخول ما كان في النهاية موفّقاً، كما أنّ الخروج ما أشعر المسلمين في لبنان أنّه كان مسوَّغاً. ولستُ أدري كيف يفكّر هو في الأمر اليوم، لكنّ الواقعة وقعت في العام 2016، وما عادت العودة للوراء ممكنةً ولا واردة.

لقد نظرتُ للأمر، أمر الاعتزال، باعتباره تحرّراً وتحريراً. التحرّر لسعد الحريري من الأعباء التي تراكمت وما عاد تحمّلها ممكناً. أمّا التحرير فهو للمسلمين والوطنيين الذين راعتهم الانتكاسات المتوالية، وكان لا بدّ أن يتحمّل أحدٌ المسؤوليّة، سواء بالهجوم للإصلاح أو بالانسحاب. ويُحسبُ لسعد الحريري أنّه انسحب، أمّا زملاؤه في الطبقة السياسية، وانتكاساتهم لا تقلُّ هولاً عن انتكاساته، فإنّهم ما يزالون يأملون في الخلود على كراسيهم التي تصدّعت وتوشك أن تتكسّر. أما كان هؤلاء جميعاً يعرفون المصير الذي ينتظرهم مع الحزب المسلّح لولاية الفقيه؟ وضّاح شرارة أوضح لنا ذلك مبكراً في كتابه الصادر عام 1994 بعنوان: “دولة حزب الله”.

 

راحة اليأس..

فلنعُدْ إلى المسلمين والوطنيين الذين تحرّروا، وليس من سعد الحريري، بل من “الأمل” الذي ظلّ يحدوهم بين الفينة والأُخرى. لقد وصل الجمهور إلى “راحة اليأس” في مجال المسار السياسي، من الطبقة السياسية، وليس في المجالات الوطنية والقومية والإنسانية. قبل رفيق الحريري، كان أهل كلّ منطقة ذات أكثريّة سنّيّة هم الذين يقرّرون مَن يرشّحون، وكان ساستهم خليطاً من العائلات السياسية والوجهاء الجدد والشبّان المتصدّين للشأن العامّ. وهم مدعوّون اليوم للعودة إلى الخيارات المحليّة، دون أن يمنع ذلك من التشاور بما يتجاوز المناطق والأقاليم. ولستُ أنصح بالركون إلى بهاء الحريري الذي لا يعرف البلاد والعباد، والذين تعاون معهم حتى الآن ليسوا معتبرين، فضلاً عن شهرته بالتقلّب والشكّ في كلّ أحد. ومع ذلك كلّه أو على الرغم من ذلك كلّه فأنا أحسب له أنّه لن يسمح بإقفال منزل والده! أمّا العمل السياسي فليس من شأنه، وقد تأخّر كثيراً حتى قرّر الظهور، وما أزالُ أذكر له حوالى العام 2010 تعييره لنا بمخاصمة المقاومة العظيمة بدون داع.! وما أزال أذكر ما قاله لي أحد السياسيين القدامى عام 2018 عندما رأى شدّة سخطي على سعد الحريري: “ستترحّمون على سعد كثيراً إذا اعتزل، لأنّكم سترون مع البدلاء من أُسرة الحريري الأهوال”.

إن لم تجرِ الانتخابات في مواعيدها فإنّ النظام كلّه سيزداد تهافتاً وتصدّعاً

تتصاعد الشائعات السياسية وغير السياسية عن أنّ المتحالفَيْن سمير جعجع ووليد جنبلاط يريدان التآلف مع بهاء. والسُنّة في مناطق كثرتهم لا يحتاجون إليهما ولا إلى غيرهما. وقد عرفنا للدكتور جعجع ادّعاءه القدرة على استلحاق السُنّة، فلا بدّ من الحذر منه. ولا بدّ من كلمةٍ صريحةٍ مع جنبلاط. وأُكرّر ضرورة تشاور أهل كلّ منطقةٍ فيما بينهم، وترشيح ذوي الصدقيّة والآدميّة منهم. لقد ارتاحوا أو أوشكوا من فسادات المستقبل، إنّما لا ينبغي الاستكانة لمقتدري تهريب المخدِّرات والمازوت والبنزين، ولا للّذين يزدادون ولاءً للحزب المسلَّح. يتناتش الفرقاء السياسيون وشبه السياسيين أصوات السُنّة وتمثيلهم أو يريدون ذلك، وهذا أمرٌ لا يصحّ أن يحصل، ويستطيع أهل كلّ منطقةٍ أن يحقّقوا أغلبيّات على مرشّحين معيّنين ممّن لم يشاركوا في الفساد.

ما هي الإمكانيّات الأُخرى غير العودة إلى المحلّيّ والأصيل؟

 

الخيارات الأخرى

هناك مَن يقول إنّ اختيارات رفيق الحريري، سواء في بيروت أو خارجها، وللنيابة والوزارة والإدارة، ما كانت شديدة التوفيق، وإن تكن التقاليد والأعراف قد لعبت دوراً كبيراً فيها. أمّا اختيارات سعد الحريري (والتي لا ينبغي أن يُحسب منها إلاّ مناسبتيْ 2009 و2018 وما بينهما) فما كانت موفقةً في غالب الأحيان حتى لا نقول أكثرها. ولذلك أرى أنّ العودة إلى المحلّيّ، المزيج من التقاليد والوجهاء الجدد والشبّان المقتدرين الواعدين، هي الأفضل وبدون زعاماتٍ حاكمة أو شاملة.

إنّ الذين بقوا من أيّام رفيق الحريري هم الذين أثبتوا قدرات شخصية محلّية أو عامّة. وكذلك (وإن كانوا أقلّ عدداً) من أيّام سعد. وهكذا، للمرّة الثالثة في هذه المقالة، أرى ضرورة تشكّل الجماعة المحلّيّة التشاوريّة، والتعاون بين المقتدرين في كلّ منطقة. ولأنّه لم تعُد هناك غنائم فساد وإغراء فأنا واثق أنّ “الجماعة” يمكن أن تتكوّن لأنّ المطلوب كهول وشبّان يستطيعون أن يتحمّلوا الأعباء في المجاليْن المحلّيّ والوطني، وبالطبع ليس من الضروريّ أن تبقى الجماعة التشاورية محليّة، بل يمكن أن تكون هناك مناطق بالمعنى الكبير (مثل شمال لبنان) أو تتلاقى التشاوريّات في بيروت. وتبقى دائرة بيروت هي الأصعب لكثرة الطامحين الصغار وكثرة الاختراقات التي ظهرت عام 2018، وليس بسبب سوء قانون الانتخاب فقط.

اختراقات الحزب المسلّح

هي مرحلة انتقالية سيظهر فيها خليط من القدامى والجدد. والصعب الصعب فيها هي الاختراقات من الحزب المسلّح وحلفائه وفوائض قوّته. والصعب الصعب أيضاً البؤس الذي تعاني منه شريحة واسعة جدّاً من اللبنانيين ومن السُنّة على وجه الخصوص. ولكي تكون هناك معالم وقواعد للاختيار (أرى أنّها تكوَّنت بالفعل)، ينبغي أن يكون الاحتكام في الاختيار إلى مَنْ تقدَّم لدعم المجتمع ومؤسّسات الخير والعمل الاجتماعي، وهم كُثُرٌ بحمد الله وفي كلّ المناطق.

عندنا إذن عدّة وجوه للضعف في العمل السياسي وفي تحمّل المسؤوليّات الوطنية وفي الانتخابات، ومنها الميزات التي تضاءلت للزعامة الشاملة، والاختراقات الكبيرة والكثيرة جدّاً، وبؤس المواطنين الذي يدفعهم باتّجاه التبعيّات وباتّجاه “النوفو ريش”. بيد أنّ العامل البارز الرابع هو غياب البُعد أو العمق العربي بتاتاً هذه المرّة. وهو غيابٌ لا يعود لاستخدام لبنان من جانب الحزب المسلَّح والمتأيرن للإضرار بالأمن العربي فقط، بل ويعود أيضاً من جانبنا للافتقار إلى الشخصيّات الوطنية والإسلامية البارزة في المواقع الرسمية التي تفهم وتستقبل العرب وتذهب إليهم للإقناع بالوجود والفعّاليّة.

وتبقى خاطرةٌ أخيرة: ماذا لو لم تجرِ الانتخابات كما يهمس الكثيرون من المراقبين، على الرغم من إصرار الفرنسيين والأميركيين؟

إقرأ أيضاً: الورقة الكويتيّة الخليجية الدولية: إنذار أخير!

بالطبع إن لم تجرِ الانتخابات في مواعيدها فإنّ النظام كلّه سيزداد تهافتاً وتصدّعاً. وعلى أيّ حال هي تجربةٌ فريدةٌ بدأنا بخوضها: بالإعداد للانتخابات كأنّها حاصلة بالفعل، وبإعادة بناء المجتمع السياسي الجديد عند السُنّة وعند المسيحيين، بدون زعاماتٍ شاملة، وفي أوضاع غير مريحةٍ أبداً وتستدعي نهوضاً من أجل الإنفاذ للمجتمع والدولة. والأمر في حالتنا وحالة المسيحيين كما قال الشاعر:

 وإنّ بقومٍ سوّدوك لحاجةً  

إلى سيدٍ لو يظفرون بسيّدِ

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…