لم تكن زيارة مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري وصاحب أكبر كتلة برلمانية، للعاصمة بغداد في الأيام الأخيرة، زيارة عاديّة أو عابرة لجهة الغموض الذي اكتنف جدول أعمالها. خاصة أنّها جاءت بعد الجولة التي قام بها زعيم تحالف الفتح وقائد منظمة بدر وعضو الإطار التنسيقي (القريب من إيران) هادي العامري، وشملت الصدر في مقرّ إقامته في منطقة الحنانة في مدينة النجف، ومدينة إربيل عاصمة إقليم كردستان، إضافة إلى لقاء جمعه مع الزعيم الكردي مسعود بارزاني.
جاءت الزيارة إثر عدم التوصّل إلى تفاهمات واضحة تساعد على الخروج من الأزمة التي تواجهها الاستحقاقات الدستورية، وبعد تعذّر الاتفاق على آليّة لاختيار رئيس الوزراء المقبل، وغياب إمكانية التفاهم على مخرج لتمسّك الصدر بمطلب تشكيل حكومة أغلبية وطنية مقابل تمسّك الإطار التنسيقي بمطلب الذهاب إلى حكومة توافقية تحافظ بالدرجة الأولى على “وحدة البيت الشيعي”، في مقابل ما أفرزه استحقاق رئاسة البرلمان من “وحدة الصفّ” في المكوّن السنّيّ.
تؤكّد مصادر مقرّبة من الطرفين ومواكِبة لزيارة الصدر الأخيرة لبغداد أنّ الأخير التقى العامري في أحد مقرّات التيار الصدري في منطقة الكاظمية
أكّدت أوساط التيار الصدري، والإطار التنسيقي أيضاً، وما زالت تؤكّد، عدم حصول أيّ لقاء بين الصدر وبين أيٍّ من قيادات الإطار التنسيقي. في حين تؤكّد مصادر مقرّبة من الطرفين ومواكِبة لزيارة الصدر الأخيرة لبغداد أنّ الأخير التقى العامري في أحد مقرّات التيار الصدري في منطقة الكاظمية، وأنّ الاجتماع بينهما لم يسِر بالسلاسة التي كان يرغب بها الصدر لجهة عدم تجاوب العامري مع العروض والمغريات التي وضعها على طاولة الحوار. حوار يطمح الصدر من خلاله إلى أن يضمّ أطرافاً من الإطار التنسيقي إلى قائمته أو تحالفه بما يسمح له بالتمسّك برفض مشاركة زعيم دولة القانون رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.
ماذا سمع الصدر من العامري؟
الموقف الذي سمعه الصدر في بغداد من العامري والذي مثّل موقف الإطار التنسيقي الموحّد من أزمة تشكيل الحكومة وطبيعتها، والخيار بين حكومة أغلبية وحكومة توافقية، شكّل صدمةً لرهانات الصدر على إمكانية شقّ الصفّ داخل الإطار واستقطاب بعض أطرافه للدخول معه في تحالف من أجل تشكيل الحكومة. وهو ما دفعه إلى إنهاء هذه الزيارة سريعاً والعودة إلى “الحنانة” في النجف، خالي الوفاض، والتكتّم على اللقاءات التي عقدها وما دار فيها من نقاشات.
لمس الصدر تصلّباً في موقف قيادات الإطار، خاصة الأطراف التي كان يراهن على أن تكون مدخلاً يمكّنه من تفكيك هذه الجبهة وتحقيق ما يريده من عزل المالكي وإبعاده عن أيّ تحالف. وبدت الرسالة واضحة من هذه القيادات بأنّها لن تدخل في أيّ تحالف كأطراف منفردة، وأنّ الإطار يشكّل كلّاً متكاملاً ومتماسكاً، وأنّ قبول أيّ من قيادات الإطار بمحاصرة المالكي وعزله وإبعاده عن العملية السياسية سيكون بمنزلة تخلّي هذه القيادات، بما تمثّله من أطراف حزبية وفصائلية، عن قدرة المناورة. لأنّ الصدر لن يقبل بها شريكةً له في القرار، بل تابعةً يجب عليها تنفيذ رؤيته ومشروعه، وبذلك تكون قد أسّست لإنهاء حياتها السياسية وخسارة قاعدتها الشعبية.
أكّدت أوساط التيار الصدري، والإطار التنسيقي أيضاً، وما زالت تؤكّد، عدم حصول أيّ لقاء بين الصدر وبين أيٍّ من قيادات الإطار التنسيقي
جاء رفض قوى الإطار التنسيقي الانضمام والتحالف مع التيار الصدري من دون المالكي خوفاً من أن يكون مصيرها في المستقبل كمصير المالكي، وأن يعود الصدر ويلتفّ عليها ويخرجها تدريجياً من المشهد السياسي أو يحاصرها ويسحب الأوراق التي تملكها داخل مؤسّسات الدولة. وعندئذٍ لا ينفع الندم، لأنّها ستكون مصداق مقولة “أُكِلتُ يومَ أُكِلَ الثورُ الأبيض”.
استحالة زعامة الصدر؟
في مقابل خوف قوى الإطار من استفراد الصدر بها، فإنّ الوضع الذي يواجهه الصدر يبدو مليئاً بالتعقيدات، سواء داخل البيت الشيعي، أو في علاقته مع القوى السياسية المتحالف معها من المكوّنات الأخرى السنّية والكرديّة. فهو لن يكون قادراً على فرض الأمر الواقع الذي يطمح إليه ويكرِّسه زعيماً ومتحكّماً بخيارات البيت الشيعي، يقرِّب مَن يريد ويُبعد ويُقصي مَن يريد. فضلاً عن أنّه قد يكون أمام خطر الوقوع في شباك القوى الأخرى التي تحالف معها في الفضاء الوطني، خاصة الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة البارزاني، وأن يتمّ الاستفراد به نتيجة دخوله في تحالف مع مكوّنات أخرى من دون امتلاك عمقٍ داخل البيت الذي يأتي منه ويحمل لواء تمثيله منفرداً. ولذلك سيكون مجبراً على تقديم تنازلات تضعه في دائرة الاتّهام بالتفريط بمصالح المكوّن الشيعي وإضعاف موقعه ودوره في المعادلات السياسية، خاصة أنّ هذا المكوّن كان في العقدين الماضيين المتحكّم بمفاصل العملية السياسية، وحتى بترجيح طرف على حساب طرف آخر من المكوّنات الأخرى.
الارتياح النسبي داخل وبين قوى الإطار التنسيقي، لعدم قدرة الصدر على اختراق جدار موقفهم وتفكيك صفوفهم واستقطابهم فرادى، قد يقدّم تفسيراً لاستمرار الصدر في البحث عن مخارج لأزمته مع “الإطار”. ما ينعكس على طموحه في الإمساك بزمام تمثيل البيت الشيعي وتسهيل تحكُّمه بموقع رئاسة الوزراء وتكبير حصّة هذا المكوّن في الحكومة وإدارات الدولة. والخطاب المسجّل الذي نشره قبل أيام قدّم فيه الكثير من التنازلات لبعض قوى الإطار، وسجّل تراجعاً واضحاً عن موقفه المتشدّد تجاه مؤسّسة الحشد الشعبي، إذ تخلّى عن فكرة تفكيكها ودمجها في المؤسسة العسكرية والأمنيّة، من دون التخلّي عن موقفه الرافض للشراكة مع المالكي.
الأيام الفاصلة عن موعد الجلسة البرلمانية المقرّرة في السابع من شباط الجاري، والمخصّصة لانتخاب رئيس الجمهورية، والتي من المفترض أن تؤسّس لمرحلة اختيار رئيس الوزراء، من المتوقّع أن تشهد حرباً مفتوحةً في المواقف والتسريبات وأوراق الحلّ والتفاوض. إلّا أنّ الأبرز في هذا السياق، الذي قد يشكّل أساساً للتعامل في المرحلة المقبلة، أنّ قوى الإطار ترفض المشاركة في الحكومة متفرّقةً. وإذا ما رغب الصدر في إبعاد الانقسام عن البيت الشيعي فعليه أن يقبل الإطار جسماً واحداً بكلّ مكوّناته وأعضائه يتقدّمهم المالكي، خاصة بعدما سمع من العامري في لقاء الحنانة وبغداد موقف الإطار الواضح والمتماسك.
وبغضّ النظر عن مدى صحّة التسريبات عن الورقة الأخيرة التي قدّمها العامري في لقائه مع الصدر والتي تحدّد حجم مشاركة الإطار في العملية السياسية والحكومة المقبلة، إلا أنّها تتحدّث عن اقتراحات أو صفقة يجري الإعداد لها، وقد تحظى بقبول من الصدر وتتضمّن مخرجاً لدور المالكي بأن يتولّى منصب النائب الأوّل لرئيس الجمهورية فيما يكون خميس الخنجر النائب الثاني، وأن يتولّى العامري منصب نائب رئيس الوزراء لشؤون الأمن والحشد.
إقرأ أيضاً: العراق بين إيران والحزب: لسنا مجبرين على تحمّل الخسارة
أربيل هي الحلّ؟
رست الأمور بانتظار الصورة الأخيرة للمشهد الكردي والخلاف حول رئاسة الجمهورية بين الحزب الديمقراطي الذي دفع بهوشيار زيباري مرشّحاً عنه والاتحاد الوطني المتمسّك بترشيح برهم صالح، وما يعنيه استمرار الخلاف بينهما من إمكانية الذهاب إلى صراع مفتوح بين جناحيْ الإقليم الكردي لا أحد يعرف نهاياته. فيما يبدو أنّ أربيل، بقيادة مسعود بارزاني، لعبت دوراً محورياً ومتقدّماً في إنتاج تفاهم كشفت عنه في الجلسة الأولى للبرلمان وانتخاب الحلبوسي (التحالف بين الديمقراطي وائتلاف الحلبوسي والخنجر والتيار الصدري). ومن المتوقّع أن تعود للعب دور في تقريب وجهات النظر بين الصدر والإطار التنسيقي، وأن تسعى بالتعاون مع الحلبوسي والخنجر إلى تليين موقف الصدر من جهة، وموقف الإطار من جهة أخرى، وجرّهما إلى حلّ وسطيّ يُرضي جميع الأطراف، ويساعد ويساهم في تسهيل انعقاد الجلسة الثانية للبرلمان وانتخاب رئيس الجمهورية.