صواريخ مطار بغداد… والتراجع الإيرانيّ

مدة القراءة 6 د

يعطي الهجوم الذي استهدف مطار بغداد بالصواريخ فكرة عن حال التراجع التي تواجه المشروع التوسّعي الإيراني في غير مكان. ليس لدى “الجمهوريّة الإسلاميّة” ما تردّ به على التراجع الذي تعرّض له مشروعها غير التصعيد. تصعّد إيران في كلّ مكان تمتلك فيه ميليشيات مذهبيّة تابعة لها. تتراجع في كلّ مكان باستثناء لبنان حيث لم تعد في حاجة إلى تصعيد لفرض هيمنتها. لا يزال لبنان راضخاً للاحتلال الإيراني الكامل والشامل. لا مقاومة فيه، إلى إشعار آخر، لهذا الاحتلال الذي يقوم على تدمير البلد وإفقار شعبه وتهجيره. يضاف إلى ذلك، في طبيعة الحال، عزل لبنان عربيّاً ودوليّاً، خصوصاً في مجال قطع علاقته بدول الخليج العربي كلّها.

يمكن الحديث عن نجاح إيراني، ليس بعده نجاح، في تدمير لبنان في ظلّ تواطؤ الثنائي الرئاسي الذي يشكّله ميشال عون وصهره جبران باسيل مع “حزب الله”.  ليس الحزب الحاكم في لبنان سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني الذي بات يحتكر السلطة في “الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانيّة.

ليست الصواريخ التي اطلقتها ميليشيا عراقيّة تابعة لإيران في اتجاه مطار بغداد سوى تتمة لمحاولة اغتيال مصطفى الكاظمي

من المفترض ألّا يمنع التغوّل الإيراني في لبنان، وهو تغوّل يعبّر عنه في كلّ مناسبة الأمين العامّ لـ”حزب الله” حسن نصرالله، من الاعتراف بالواقع. يتمثّل هذا الواقع في أنّ إيران تواجه هذه الأيّام في أنحاء مختلفة من المنطقة نكسات لم يكن متوقّعاً تعرّضها لها في ضوء الاستثمارات الضخمة في ميادين مختلفة، وهي استثمارات قامت بها، إن في العراق أو في سوريا أو في اليمن. 

ما يؤكّد وجود مقاومة عراقيّة حقيقيّة لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانية تعطيل إيران الحياة السياسية في البلد الجار منذ إعلان نتائج الانتخابات العراقيّة التي أُجريت في تشرين الأوّل الماضي. شكّل إجراء الانتخابات في موعدها نجاحاً كبيراً لحكومة مصطفى الكاظمي وللشخص نفسه.

خسرت الأحزاب الموالية لإيران الانتخابات العراقيّة. حلّ حزب مقتدى الصدر، الباحث عن دور عراقي مستقلّ عن الدور الإيراني، في الطليعة. لم تترك “الجمهوريّة الإسلاميّة” وسيلة إلّا واعتمدتها من أجل وضع العقبات في وجه تطوّر الحياة السياسيّة العراقية على نحو طبيعي. تفعل ذلك عن طريق منع  تشكيل حكومة جديدة يدعمها مقتدى الصدر، على أن تمثّل هذه الحكومة الأكثريّة في مجلس النواب. بالنسبة إلى ايران، ليست نتائج الانتخابات مهمّة. المهمّ ما تريده هي في العراق الذي كان بمنزلة خاتم في إصبعها عندما كان قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” لا يزال حيّاً. كان قاسم سليماني، الذي اغتيل في الثالث من كانون الثاني 2020، قادراً على فرض رأيه في العراق. كان يستطيع فرض كلّ التسويات بما يناسب أجندته. كان يعرف العراق عن ظهر قلب. كان يعرف خصوصاً كلّ الشخصيات العراقيّة ونقاط ضعفها وكيف الضغط على كلّ منها.

تتقدّم الحياة السياسيّة في العراق تقدّم السلحفاة. أمكن انتخاب رئيس لمجلس النواب بصعوبة بعد جلسة سادتها الفوضى لمجلس النواب الجديد

ليس ما يشير إلى أنّ خليفة سليماني، إسماعيل قاآني، يمتلك مواهب سلفه. لا يعرف العراق بتفاصيله الدقيقة ولا يتقن العربيّة. لكنّ الأهمّ من ذلك كلّه أنّ إيران نفسها تغيّرت ولم تعد تمتلك تلك القدرة على تنفيذ سياسات كبيرة في المنطقة استناداً إلى أجندة خاصة بها. ما تغيّر يتجاوز اغتيال الأميركيين لقاسم سليماني. يعود ما تغيّر، قبل أيّ شيء آخر، إلى الفشل الداخلي الإيراني، وهو فشل اقتصادي عمّقته العقوبات الأميركيّة التي كانت ذات تأثير كبير على “الجمهوريّة الإسلاميّة”، شاء أركان النظام فيها أم أبوا… 

تتقدّم الحياة السياسيّة في العراق تقدّم السلحفاة. أمكن انتخاب رئيس لمجلس النواب بصعوبة بعد جلسة سادتها الفوضى لمجلس النواب الجديد. ليس مستبعداً أن تشهد جلسة انتخاب رئيس للجمهوريّة (كرديّ) تجاذبات بين الحزبين الكرديّين الكبيرين. ثمّة احتمال أن يدفع شخص لائق ومحترم مثل برهم صالح ثمن الانحياز الكامل لزعيم الاتحاد الوطني الديموقراطي بافل جلال طالباني إلى إيران. يبدو واضحاً أنّ بافل يسعى إلى تكريس الانقسام الكرديّ – الكرديّ بما يخدم المصلحة الإيرانيّة.

ليست الصواريخ التي أطلقتها ميليشيا عراقيّة تابعة لإيران في اتجاه مطار بغداد سوى تتمّة لمحاولة اغتيال مصطفى الكاظمي في تشرين الثاني الماضي بواسطة طائرات مسيّرة تحمل متفجّرات استهدفت منزله. بالنسبة إلى إيران، لم يبقَ لها في العراق سوى الميليشيات المذهبيّة التابعة لها كي تثبت أنّها لا تزال موجودة. ترفض “الجمهوريّة الإسلاميّة” الاعتراف بانّها فقدت هيبتها في العراق مثلما فقدت هيبتها في اليمن في ضوء الهزائم الأخيرة التي لحقت بالحوثيين في محافظة شبوة وفي مأرب الآن. تبيّن مع مرور الوقت ومع دخول قوات العمالقة، التي هي في أكثريّتها جنوبيّة، على خط المواجهة مع الحوثيين أنّ هؤلاء ليسوا في منأى عن هزيمة نهائيّة، وذلك مهما جنّدوا أطفالاً وغسلوا عقولهم بشعارات من نوع “الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”. الأكيد أنّه لن يفيد الحوثيين وأسيادهم في إيران الردّ على هزائم شبوة ومأرب بعدوان على أبو ظبي. مثل هذا العدوان ليس أكثر من دليل على عجزٍ عن متابعة المواجهة في أرض المعركة في اليمن وليس خارجه.

في النهاية، لو كان في استطاعة إيران تسويق شيء آخر غير نشر البؤس والدمار والتخلّف، وهذا ما اكتشفه العراقيون، لكانت استطاعت أن تفعل شيئاً لنظام بشّار الأسد الأقلّوي الذي يعاني من أزمة اقتصاديّة لم تشهد سوريا مثيلاً لها في تاريخها الحديث. الوضع في دمشق أسوأ ممّا كان عليه عندما كان الثوّار يطوّقون العاصمة في العامين 2012  و2013. وقتذاك، اضطرّ الأسد الابن إلى قصف شعبه بالسلاح الكيميائي قبل أن يلجأ إلى روسيا كي يبقى مقيماً في دمشق بحماية إيرانيّة…

إقرأ أيضاً: الثابت الوحيد… إيران دولة طبيعيّة أم لا

يبقى سؤال أخير. هل تدرك إدارة جو بايدن حقيقة الوضع الداخلي في إيران، أم ستلجأ إلى إنقاذ النظام الإيراني من الورطة التي أوقع نفسه فيها؟ تبدو الأسابيع القليلة المقبلة حاسمة بالنسبة إلى معرفة هل ستهبّ الإدارة في واشنطن إلى نجدة النظام الإيراني من منطلق جهلها بطبيعة هذا النظام ومقدار الأذى الذي ألحقه بدول المنطقة واستقرارها، خصوصاً بحلفاء الولايات المتحدة!

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…