وقع اغتيال الرئيس رفيق الحريري في لحظة بدء صعود التناقض الإيراني مع هويّة لبنان العربية. ووقع تعليق الرئيس سعد الحريري مشاركته السياسية في لبنان في لحظة انفجار هذا التناقض، مع استئساد التوسّع الإيراني، وخروجه من لبنان إلى قلب الحواضر العربية، قصفاً (السعودية والإمارات) واحتلالاً (سوريا واليمن) ونفوذاّ عسكرياً (العراق).
هذا لأنّ الحريرية لم تكن إلا نتاج “توازنات إقليمية ودولية”، منذ اتفاق الطائف. وكانت تهتزّ كلما اهتزّت هذه التوازنات، وتعود إلى الازدهار في لحظات التسويات. ليس أوّلها “لحظة الطائف” وربما كان آخرها لحظة “السين سين”.
انفجر التناقض الكبير بين هويّة لبنان العربية وبين توسّع النفوذ الإيراني في لبنان بوجه سعد الحريري. ليس هذا وحسب، بل فاض هذا التناقض عن الداخل اللبناني وبدأ يهدّد المصالح الاستراتيجية للدول العربية
حدث عربي ودولي كبير
ليس تعليق الرئيس سعد الحريري عمله في الحياة السياسيّة حدثاً محصور الدلالات والارتدادات بالحريري وتيار المستقبل، وبالساحة السنّيّة عموماً. بل هو حدث لبناني كبير له أسباب خارجية أوّلاً، وداخلية ثانياً، وله دلالات عربية وإقليمية ودولية، وستكون له تبعات كبرى على الساحة الداخلية على وقع الاشتباك الإقليمي – الدولي في المنطقة وحول لبنان.
لعلّ مفتاح خطاب الحريري الإثنين الفائت يكمن في قوله أن “لا مجال لأيّ فرصة إيجابية للبنان في ظلّ النفوذ الإيراني والتخبّط الدولي والانقسام الوطني”. هذه جملة توثّق الارتباط العضوي والمتين بين خطوة الحريري وبين اللحظة الإقليمية والدولية المتمثّلة بشكل أساسي بتصلّب الاشتباك العربي الخليجي – الإيراني على وقع التحوّلات في السياسات الأميركية بالمنطقة ودخول لاعبين دوليّين كبار جدد إلى الساحة الإقليمية. وكلّ ذلك في ظلّ ترقّب وتحسّب خصوم إيران الإقليميين للارتدادات الجيوسياسيّة لأيّ اتفاق محتمل بين واشنطن وطهران في فيينا.
تزامن خطوة الحريري مع الزيارة الاستثنائية لوزير الخارجية الكويتي أحمد ناصر الصباح للبنان يؤكّد المؤكّد لناحية طبيعة قرار الحريري ودلالاته العربية والدولية. خصوصاً أنّ الصباح حمل معه رسالة كويتية خليجية عربية (سمّى مصر والأردن) ودولية تتضمّن “إجراءات وأفكاراً مقترحة لبناء الثقة مجدّداً مع لبنان”.
تتّصل أساساً النقاط السياسيّة، من بين النقاط الـ12 التي تضمّنتها الورقة الكويتية، بمعالجة تبعات النفوذ الإيراني في لبنان من خلال “التزام لبنان بكلّ استحقاقات مؤتمر الطائف وبكلّ قرارات الشرعية الدولية وقرارات جامعة الدول العربية، والتأكيد على مدنيّة الدولة وفق ما جاء في الدستور، واتّباع سياسة النأي بالنفس التي يجب أن تكون فعلاً لا قولاً فقط”.
قبل ذلك وبعده فإنّ عودة سريعة إلى التعريف الرئيسي للحريريّة السياسيّة منذ لحظة نشوئها تُظهر أنّ نقطة قوّتها ونقطة ضعفها، في آن معاً، أنّها تتحرّك ضمن إطار إقليمي – دولي، لا داخلي وحسب. فعندما كان هذا الإطار مناسباً لصعودها اللبناني انتعشت وازدهرت وعندما لم يعد كذلك ضَمُرت وتقهقرت.
وللتحديد أكثر فإنّ الغطاء العربي – السعودي لها كان حاسماً في ولادتها في لحظة تقاطعات وتحوّلات إقليمية ودولية بعد حرب الخليج الأولى وانهيار الاتحاد السوفياتي. ثمّ مع التبدّل التسلسليّ لهذا الظرف الإقليمي والدولي لنشوئها بدأت الحريريّة تواجه تحدّيات أساسية وصولاً إلى اغتيال رفيق الحريري في أعقاب الزلزال الجيوساسي الذي أحدثه الغزو الأميركي للعراق وإسقاط الجدار الفاصل أمام تمدّد إيران في المنطقة.
هذا لا يُشكِّك أبداً في واقع أنّ الحريريّة شكّلت ولا تزال تشكّل حالة لبنانية فريدة وعميقة، وبما يتجاوز الواقع السنّيّ، لكنّها في الوقت نفسه حالة مرتبطة جوهريّاً بطبيعة السياسة اللبنانية في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، باعتبار أنّ هذه الحرب أسقطت الكثير من الهوامش المحليّة للسياسة اللبنانية، ولا سيّما في ظلّ إمساك لاعب إقليمي كبير هو النظام السوري بقواعد اللعبة اللبنانية. لذلك ما كان الخروج من الحرب ممكناً من دون مظلّة عربية ودولية لـ”الوضع الجديد” الذي دشّنه اتفاق الطائف.
لقد كان رفيق الحريري العنوان الرئيسي لهذه المظلّة. كما كان، وهذا الأهمّ، الترجمة السياسيّة الفعليّة لمضمون اتفاق الطائف لجهة أنّ لبنان عربيّ الهويّة والانتماء. ولذلك لا تستطيع الحريريّة أن تغادر منطقيّاً وسياسيّاً لحظتها التأسيسيّة تلك وإلّا حكمت على نفسها بالضعف والتشتّت. فخصائصها التكوينية تُلزمها بالتحرّك ضمن المظلّة العربية إيّاها. ولذلك هي تتأثّر حكماً بأولويّات هذه المظلّة وتحوّلاتها ومصالحها الاستراتيجية. وهي مصالح تشكّل أوّلاً وأخيراً ما يمكن تسميته بـ”الأمن القومي العربي”، الذي يوجد لبنان في صلبه. وهذا ما ينفي أيّ تناقض بين مصالح هذه المظلّة، وعمادها المملكة العربية السعودية، وبين المصلحة اللبنانية النهائية. وهذا سببٌ إضافيٌّ لاضطرار الحريريّة إلى البقاء ضمن المظلّة العربية نفسها. وإذا كان من تقويم للسلوك السياسي والشخصي لقيادات الحريريّة فسيكون حول هذه النقطة بالذات، أي حول قدرتها وبراعتها في التقاط تقاطع المصالح هذا وإدارته بكفاية والتصرّف بموجبه.
لقد كان رفيق الحريري العنوان الرئيسي لهذه المظلّة. كما كان، وهذا الأهمّ، الترجمة السياسيّة الفعليّة لمضمون اتفاق الطائف لجهة أنّ لبنان عربيّ الهويّة والانتماء
التناقض الكبير
انفجر التناقض الكبير بين هويّة لبنان العربية وبين توسّع النفوذ الإيراني في لبنان بوجه سعد الحريري. ليس هذا وحسب، بل فاض هذا التناقض عن الداخل اللبناني وبدأ يهدّد المصالح الاستراتيجية للدول العربية، وخصوصاً الخليجية، من خلال الدور العسكري والأمني لحزب الله في سوريا والعراق، وبالأخصّ في اليمن. وهذا تطوّر غير مسبوق في تاريخ لبنان.
في الواقع لم يواجه رفيق الحريري مثل هذا التناقض الكبير، وتحديداً أيّام حافظ الأسد الذي كان جزءاً من النظام العربي، وكان يأخذ ويعطي ضمنه. فلم يدفع حافظ الأسد استراتيجياً باتجاه سقوط المظلّة العربية للبنان، فيما اختلفت السياسات السورية في لبنان بعد موته، وبتأثير مباشر من الاستراتيجية الإيرانية الهجومية الصاعدة، التي تأخذ ولا تعطي… إلّا للأميركيين!
في بدايات بروز هذا التناقض بين المظلّة العربية و”المظلّة” الإيرانية اغتيل رفيق الحريري. وعندما بلغ هذا التناقض حدوده القصوى اضطرّ نجله سعد إلى تعليق عمله السياسي. لا سيّما أنّ محاولاته خلق نظام مصلحة لبناني متمايز عن نظام المصلحة العربية تحت إطار أو ذريعة منع الحرب الأهلية في لبنان فشلت، بل ارتدّت سلباً على مصالح دول المظلّة العربية للبنان.
بين 1992- 2022
كثرت في الأيام القليلة الماضية المقارنات بين الواقع السياسي المسيحي ما بعد الحرب وبين الواقع السياسي السنّيّ اليوم، وتحديداً لجهة مقاطعة الأحزاب والقوى المسيحية، وفي مقدّمها البطريركية المارونية، انتخابات 1992، ومقاطعة تيار المستقبل انتخابات 2022.
السؤال الأول الذي يُطرَح هنا: هل نشهد مقاطعة سنّيّة (شبه) مطلقة لانتخابات 2022 في حال حصولها، على غرار المقاطعة المسيحية (شبه) المطلقة لانتخابات 1992؟
حتّى الآن لا يبدو الأمر كذلك، مع الأخذ في الاعتبار اختلاف التركيبة السياسية ضمن الطائفتين لجهة المركزيّة السياسيّة للحريريّة ضمن الطائفة السنّيّة، فيما لا توجد مركزيّة سياسيّة لأيّ من الأحزاب ضمن الطائفة المسيحية. ولهذا السبب قد توازي مقاطعة تيار المستقبل لانتخابات 2022 في مدلولاتها السياسية والوطنية، إلى هذا الحدّ أو ذاك، مقاطعة الأحزاب المسيحية وبكركي لانتخابات 1992، مع الأخذ في الاعتبار أيضاً أنّ البطريركية المارونية ظلّت تشكّل مرجعية سياسيّة للمسيحيين في لبنان بعد “غياب” أحزابهم الكبيرة، فيما دخلت الطائفة السنّيّة في ظلّ “غياب” تيّار المستقبل في أزمة غياب المرجعية السياسيّة السنّيّة.
كلّ ذلك له تأثيرات كبرى على طبيعة المشاركة السنّيّة في النظام السياسي، سواء عبر الانتخابات أو الحكومة، ولا سيّما إذا لم تحظَ هذه المشاركة بغطاء عربيّ كافٍ.
هذا يحيلنا إلى سؤال ثانٍ يتعلّق بالمقارنة بين 1992 و2022. في عام 1992 لم تتأثّر انطلاقة “النظام الجديد” بشكل مباشر بمقاطعة المسيحيين للانتخابات، ليس لأنّ المسيحيين هُزِموا في الحرب، بل لأنّهم خرجوا منها بلا غطاء عربي أو دولي. سارت اللعبة من دونهم، لكنّ ذلك لم يعنِ للحظة أنّه كان يمكن أن تسير إلى الأبد من دونهم. وهو ما حصل فعلاً بدءاً من العام 2000، وتحديداً في لحظة إطلاق نداء المطارنة الشهير الذي عارض الوجود العسكري السوري في لبنان.
نظام حرب أهلية؟
الآن السُنّة اللبنانيون هم جزءٌ من معادلة إقليمية أيّاً تكن ظروفهم الراهنة وظروف المعادلة إيّاها. ولذا من الصعب توقّع قدرة أيّ “نظام جديد” على الانطلاق من دونهم، وحتّى إذا انطلق فإنّه سيحمل في انطلاقته أسباب فشله وسقوطه، إلّا إذا كان هذا النظام نظام غلبة صافية، أي نظام حرب أهليّة.
فارق آخر كبير بين 1992 و2022، يكمن في أنّ انتهاء الحرب الأهليّة شكّل دفعاً اقتصادياً عربيّاً وغربيّاً للبنان، في حين أنّ البلد يغرق اليوم في كارثة اقتصادية وإنسانية لا يمكنه الخروج منها إلّا بدعم خارجي، وتحديداً عربي خليجي. تماماً كما لا يمكن توقّع إعادة إعمار سوريا من دون دعم عربي خليجي.
إقرأ أيضاً: السُنَّة بعد الحريري: إقفال “المؤسّسة”؟
إضافةً إلى ما سبق، لا بدّ من الإشارة إلى أنّه في العام 1992 كان النفوذ السوري في لبنان يحظى بغطاء عربي وأميركي. أمّا النفوذ الإيراني في لبنان من خلال حزب الله فهو مرفوض عربياً ودولياً. وحتّى لو تمخّضت مفاوضات فيينا عن اتفاق بين طهران وواشنطن، يبقى سؤال أساسي حول طبيعة وحدود انعكاساته على لبنان بالنظر إلى استحالة حصول تطبيع عربي ودولي مع واقع حزب الله الراهن.
يطرح كلّ ذلك سؤالاً عن آفاق غلبة حزب الله في الداخل اللبناني، ما دامت غلبته تتزامن مع الانهيار الاقتصادي والمالي وتشكّل عائقاً رئيسياً أمام الخروج منه…