كان اسم سعد رفيق الحريري عزاءً متّصلاً على مدى سبعة عشر عاماً لجمهور يريد أن يصدّق أنّ شيئاً من رفيق الحريري لم يمُت. تواطأ الجمهور بوعيه الجمعي على الهتاف باسم الحريري من دون الاسم الأوّل، لكأنّه كان يريد لسعد أن يكون “رفيقاً”، أو بعضاً منه.
شرط العزاء أن يكون متّصلاً، طال أم قصُر. ليس من المألوف أن “يُعَلَّق”، على أمل أن يُستأنف لاحقاً حين تتغيّر ظروف المنطقة أو يتراجع النفوذ الإيراني أو يتوفّر التمويل لخوض الانتخابات.
ستكون الانتخابات المقبلة مختبراً نادراً لِما يحدث حين تغلق “مؤسسة الطائفة” رسميّاً. من الاستعجال الاحتفال بسقوطه كواحد من الزعامات الطائفية
كان يُفترض بالحريري الابن أن يُنهي العزاء منذ وقت طويل وأن يبدأ زمنه الخاصّ. لكنّه لم يفعل. بل حتّى في هذه اللحظة الحاسمة وجد الاعتزال ثقيلاً لرجل في مثل هذا العمر السياسي، فترك العودة احتمالاً “معلّقاً” على المجهول.
يتحدّث سعد الحريري عن دوره السياسي بوصفه تضحية شخصية أخذت منه وقته وماله إلى ما لا يجد فيه متعته. وهي كذلك. فهو لم يكن يُبدي شغفاً بالسياسة قبل ذلك، ولم يكن يُشاهَد محيطاً بوالده الشهيد في لقاءاته وحملاته الانتخابية. بدا وكأنّ التاريخ بَغَتَه بدور لم يكن حاضراً له. قصّ شعره في الطائرة وهبط في بيروت، ليستقبل الطيف السياسي المناوئ للاحتلال السوري إلى جوار النعش. وبات عليه بعد ذلك أن يعيش حياة لم يُخلَق لها.
كم صعبةٍ هي حياة الزعيم!
لكنّ اسم الحريري كان أكثر من مجرّد تماثل أو نوستالجيا. كان مصداقاً لمفهوم “الطائفة” كمؤسّسة تشكّل مفردة العقد الاجتماعي للدولة. بهذا المعنى، قال يوماً إنّه “بيّ السنّة”. وحقيقة الأمر أنّه كان اخترالاً مبسّطاً لوجودهم في منظومة الحكم: لا يُدرى إن كان ضعفه من ضعفهم، أم ضعفهم من ضعفه.
السرديّة المبسّطة التي عرضها الحريري في خطاب الاعتزال تستبطن نفياً للفشل الشخصي، وتحيل الأمر إلى سقوط الطائفة في معادلات الإقليم. يريد الرجل أن يقول إنّ سُنّة لبنان هُزِموا، وما هزيمته إلا مرآة ذلك. من 7 أيّار إلى اتفاق الدوحة، إلى زيارة دمشق، إلى انتخاب ميشال عون، إلى قانون الانتخابات. ويمكن أن تُضاف ممّا لم يذكره الحريري: المساومةُ على قطع علاقة لبنان بالمحكمة الدولية في 2010، ثمّ طيّ الملفّ بعد صدور الحكم في 2020، و”ربط النزاع” مع “حزب الله” بعد انخراطه في الحرب السورية.
قطع شريان الدولة؟
قال الحريري بوضوح إنّ خياراته كانت لمنع الحرب الأهلية. والحرب التي يقصد هي تلك التي عرفها السُنّة في سوريا والعراق واليمن، ويودّ أن يفهم المستمع أنّ أولئك الذين شرّدوا السنّة في سوريا والعراق هم أنفسهم يحكمون لبنان. وقد نُقِل كلام بهذا المعنى من جلسات الحريري الضيّقة، وحتّى من جلسات عامّة، في مرحلة التسوية الرئاسية وما تلاها.
اختار الحريري ألّا يواجه، وعلّل ذلك بحماية السُنّة من التشريد، وانتهى به الأمر أن ينسحب. هل كان بوسعه أن يتّخذ خيارات أخرى؟ ثمّة حكم يُبرمه التاريخ بالنجاح أو الفشل من دون أن تُفتح أوراق الامتحانات الصعبة للنقاش. لكنّ الحكم لا يكون على الخيارات فقط، بل على إدارتها أيضاً.
لم يُحبَط الجمهور من مصافحة الحريري لبشّار الأسد، فقد فعلها وليد جنبلاط مع حافظ الأسد من قبل بعد اغتيال والده. لكنّ الفرق كان في المآل. ثبّت وليد جنبلاط زعامته في الجبل، وحفظ وحدة طائفته، فيما نال الأسد الابن صكّ البراءة ولم يعطِ شيئاً، بل أخذ “حزب الله” في استدراج الحريري بعد ذلك ليساوم على تطيير المحكمة الدولية. وحين وافق على المبدأ أسقط حكومة الوحدة الوطنية وشكّل حكومة اللون الواحد. وكذلك، لم يُحبَط الجمهور من التسوية الرئاسية، بل من انكسار التوازن فيها وما آلت إليه في نهاية المطاف.
المأزق المحيط بالسُنّة الآن أنّ الرجل لا ينسحب بشخصه، بل بكلّ ما يمثّله من اختزالٍ لوجودهم في منظومة الدولة والحكم. باعتزاله، يجد السُنّة أنفسهم أغراباً. الدولة لا تتعاطى معهم ولا مع سواهم بالمباشر، ولا هي معنيّة بتوفير الخدمات الأساسية لهم، من تعليم وصحّة وإعانات بطالة وتأمين شيخوخة، إلا من خلال “الطائفة”. العقد الاجتماعي لا يخاطبهم كمواطنين، بل يخاطب “الطائفة”، والطائفة هي المؤسّسة الضامنة. تقوى الضمانة بقوّتها وتضعف بضعفها. بها يتّصل “المواطن” حين تضيق به الدنيا عند باب المستشفى، وإليها يلجأ للبحث عن وظيفة، وبها يجد العزوة في الفرح والعزاء.
قد يتّسع الأمر لدى الطوائف القويّة لضمان وظيفة حكومية بلا عمل، أو لوظيفة مرموقة، أو لإدخال ابن إلى المدرسة الحربية، أو لنصب أعمدة كهرباء أو شقّ طريق أو إيصال خطّ هاتف، أو شطب مخالفات، أو منح عقود تحت الطاولة.
الطائفة في النظام هي “مؤسّسة”. الموارنة مؤسّستهم الكنيسة والمدارس الكاثوليكية والأحزاب، والشيعة مؤسّستهم السلاح وجيش من البيروقراطية في أجهزة الدولة، والسُنّة اختصرتهم مؤسّسة واحدة على مدى ثلاثين عاماً: الحريريّة.
يمكن لـ”مؤسسة الطائفة” أن تضعف أو تتبدّل أو تتشتّت، لكنّ وظيفتها البنيوية تبقى ما بقي النظام
المقاصد قبل الحريري
قبل الحريري الأب، كانت مؤسّسة الطائفة المركزية هي جمعيّة المقاصد. يولد الطفل في مستشفاها، ويصلّي صلاته الأولى في مساجدها، ويتعلّم في مدارسها، ويُعالَج في مستوصفاتها، وتحمله سيّارتها إلى مثواه الأخير. في عهد الأب فقدت المقاصد كثيراً من وهجها. أوقافها في وسط بيروت تحوّلت إلى أسهم بيعت لسداد الديون والرواتب المتأخّرة، وأخذت المدرسة تُغلق بعد المدرسة. وما كان ليشعر أحد بخطورة الأمر في وجود مؤسّسات الحريري ومساعداته المباشرة. ليس صدفة أن يأتي البيان السياسي الأوّل من مجلس أمنائها في هذه اللحظة. لا بدّ من التأمّل في ما يعنيه ذلك.
باغتت الشهادة رفيق الحريري وباغتت السُنّة معه. كان هو في شخصه المؤسّسة والهالة والتمويل والضمانة، ولم تكن المسمّيات تحت جناحه سوى بُنىً هشّة يكفي أن يتوقّف التمويل ليتوقّف فعلها. أقفل التلفزيون والصحيفة، والمدارس ورثها الوارثون عقاراتٍ وأصولاً استثمارية، والمستوصفات في المناطق أقفلت الواحد تلو الآخر، والجامعة البائسة التي تحمل اسم رفيق الحريري في حال اغتراب عن فضائها. لم يكن سقوطاً مفاجئاً، بل تآكلاً على مدى سنوات، ويصدف أن تنتهي القصّة في لحظة إفلاس الدولة. ليس بوسع السنّيّ الآن أن يعود مواطناً “مباشراً” في دولة ليس لديها ما تقدّمه، لا بالمباشر ولا من خلال “الطائفة”، ولا هو في ترف من البال ليختار نخبة جديدة.
كان السُنّة غاضبين من ضعف “مؤسّسة الطائفة” التي يمثّلها الحريري الابن، في السياسة كما في الخدمات. لكنّهم ليسوا جاهزين لإقفالها، وهم لذلك يشعرون بشيء ممّا عبّر عنه وليد جنبلاط. تصرّف سعد الحريري على أساس أنّ “تيار المستقبل” ليس مرادفاً للحريريّة بمفهومها الواسع المستقلّ عن شخصه، بل مرادف لسعد الحريري ومساوٍ لوجوده الشخصي، ينشط بنشاطه ويُعلَّق بغيابه. لذلك لم يستقِل من رئاسة التيار، بل أقفله وأخذ المفتاح.
ستكون الانتخابات المقبلة مختبراً نادراً لِما يحدث حين تغلق “مؤسسة الطائفة” رسميّاً. من الاستعجال الاحتفال بسقوطه كواحد من الزعامات الطائفية، إذ يمكن أن تكرّ السُبحة بعده. يمكن لـ”مؤسسة الطائفة” أن تضعف أو تتبدّل أو تتشتّت، لكنّ وظيفتها البنيوية تبقى ما بقي النظام.
إقرأ أيضاً: “الحريريّون” في غياب الحريري: مرشحون بدون اليافطة؟
ثمّة أشباه “مؤسسات” لرجال أعمال وجمعيّات وحركات متطرّفة ستجد الفرصة سانحة، وثمّة مؤسّسات تاريخية تمتلك المشروعيّة ولا تمتلك الأدوات. وثمّة أحزاب من خارج الطائفة تريد أن تأخذ حصّة من الفراغ، وثمّة أحزاب تخشى أن يصبّ التصويت الانتقامي من الجمهور السنّيّ ضدّها، وثمّة أحزاب تتشكّل تحت لافتة المجتمع المدني، تستثمر في فكرة التخلّي عن الزعامات الطائفية.
حين تغلق “مؤسسة الطائفة” تطرأ فوضى كبيرة، لكن على الأقلّ، ثمّة ساحة للاختبار.
ثمّة فرصة لتلمّس مياه التغيير.