العراق بين إيران والحزب: لسنا مجبرين على تحمّل الخسارة

مدة القراءة 9 د

للمرّة الأولى منذ عام 2003، إثر التغيير الذي شهده العراق نتيجة الاحتلال الأميركي والإطاحة بالنظام السابق وتأسيس نظام من المفترض أنّه ديموقراطي تعدّدي يقوم على مبدأ تداول السلطة، يبدو أنّ اللاعب الإيراني، الذي اعتمد سياسة ملء الفراغ في التعامل مع المتغيّر العراقي والوجود الأميركي، لا يمارس ضغوطاً كبيرة على القوى السياسية العراقية بجميع تنوّعاتها وبما تمثّله من مكوّنات أو بيوتات تتحكّم بالمشهد السياسي في هذا البلد.

قاآني ليس سليماني

وعلى العكس من الدور الذي كان يمارسه قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني قبل وبعد أيّ عملية انتخابية في العراق، يبدو أنّ خليفته الجنرال إسماعيل قاآني غير راغب في استعادة دور سلفه واعتماد اللعبة والأسلوب أنفسهما في فرض أو إسقاط الإرادة الإيرانية على القوى السياسية، وتشكيل تحالفات قسرية بينها، وإنتاج حكومة وإدارة وفق المعايير والمقاييس الإيرانية.

ينسحب الموقف الإيراني الجديد في التعامل مع المتغيّر العراقي أيضاً على حليفه اللبناني الحزب الذي يرى الساحة العراقية إحدى ركائز المشروع الإقليمي الإيراني

وعلى الرغم من سلسلة اللقاءات التي عقدها قاآني مع القيادات العراقية، خاصة الشيعية منها، من أجل جسّ النبض ومعرفة إمكانية تحقيق توافق بينها يساعد على توحيد البيت الشيعي تمهيداً لتشكيل حكومة توافقية، إلا أنّ هذه الجهود بقيت عند حدود استطلاع الأجواء والنقاش، ولم تتحوّل إلى “عملية قيصرية” لإنتاج هذا التوافق. حتى إنّ اللقاء الذي جمعه مع مقتدى الصدر لم يدخل في إطار التكهّنات على غرار ما كان يجري مع لقاءات سليماني والصدر، إذ لم يعمد إلى إخفاء نيّته عقد هذا اللقاء، بل كشف عنه لإيصال رسالة واضحة إلى كلّ الأطراف، خاصة جماعة الإطار التنسيقي، بأنّ زياراته ولقاءاته استطلاعية، وأنّ جميع الأطراف الشيعية والسنّيّة والكردية متروك لها حرّية التعبير عن رغبتها بالتوافق والتحالف أو بالذهاب إلى تحالفات ثنائية وثلاثية.

 

الحزب يلحق بإيران

ينسحب الموقف الإيراني الجديد في التعامل مع المتغيّر العراقي أيضاً على حليفه اللبناني الحزب الذي يرى الساحة العراقية إحدى ركائز المشروع الإقليمي الإيراني ومحور المقاومة أو الممانعة.

عبّرت عن المؤشّرات الأولى للموقف الإيراني مبادرةُ رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف إلى توجيه التهنئة لنظيره العراقي محمد الحلبوسي مباشرة بعد إعلان النتائج من دون التوقّف عند الاعتراضات والمواقف الصادرة عن القوى والأحزاب المحسوبة على التيار الإيراني في المشهد العراقي، والمتمثّلة في قوى الإطار التنسيقي الذي يُعتبر رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي أحد أبرز وجوهه. في حين أنّ المسؤول عن الملفّ العراقي في الحزب الشيخ محمد كوثراني، والأقرب إلى الحساسيّة العراقية ومركّباتها وتعقيداتها، وبما يمثّله من موقف معبّر عن قيادة الحزب في لبنان، لا يبدي انزعاجاً من النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات البرلمانية وخسارة الحلفاء المفترضين للحزب وإيران نفوذهم البرلماني، وحتى داخل الحكومة، لمصلحة تحالفات جديدة تبدو في ظاهرها معارضةً للنفوذ الإيراني وحزب الله، وترفع شعارات سيادية، وتسعى إلى تشكيل حكومة بعيدة عن المؤثّرات الإيرانية وحتى الأميركية، أي لا شرقية ولا غربية، كما يؤكّد زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر.

يحمل هذا الموقف لإيران وحزب الله ممّا تشهده الساحة العراقية رسالةً واضحةً إلى الأحزاب والقوى والفصائل المحسوبة عليهما، والتي خسرت في الانتخابات وما زالت متمسّكة برفض نتائجها وتميل إلى خيار مقاطعة العملية السياسية والبرلمانية أكثر من ميلها إلى خيار المعارضة الذي لا تتقنه ولا تؤمن به، بأنّ خسارتها لا تعني حتميّة خسارة إيران والحزب للساحة العراقية، وأنّ المرحلة المقبلة في العراق تفرض عليهما التعامل مع المستجدّات العراقية بما هي شأن عراقي داخلي ما دامت لا تهدّد مصالحهما الاستراتيجية في العراق أو المنطقة.

بغضّ النظر عن طبيعة القرار الذي سيصدر عن المحكمة الاتحادية، فإنّ النتائج التي ستخرج بها الجلسة الجديدة لن تحمل تغييراً في النتائج

مسار إيراني جديد

ما يعزّز هذا التوجّه، خاصّة لدى طهران، أنّ الأخيرة بدأت منذ عام 2018 التأسيس لمسار جديد من التعامل مع الساحة العراقية، وترجيح مبدأ بناء علاقات لا تمرّ عبر جماعات عراقية تكون ممثّلةً للمصالح الإيرانية، بل تعزيز العلاقات بين الحكومتين والدولتين بعيداً عن ربط المصالح والعلاقات بهذا الفصيل أو ذاك الفصيل. إلا أنّ هذا التوجّه لا يعني التخلّي عن قوى أو فصائل تُعتبر شريكةً في المحور المقاوم، خاصة تلك التي تنضوي تحت عنوان فصائل المقاومة ولا تنطبق عليها مقولة جماعات السلاح المتفلّت. وقد ساعد هذا التوجّه في إنتاج تسوية عام 2020 التي أوصلت مصطفى الكاظمي إلى رئاسة الحكومة على الرغم من اتّهام بعض الفصائل له، خاصّة كتائب الإمام علي، بالمسؤولية والمساعدة في اغتيال سليماني وأبو مهدي المهندس. وهي اتّهامات لم يتوقّف عندها الجانب الإيراني الذي انشغل مع الكاظمي في بلورة المخرج السياسي والدبلوماسي لمسألة خروج القوات الأميركية من العراق من خلال تسهيل التوصّل إلى اتفاقية التعاون الاستراتيجي بين الطرفين.

إنّ عدم استعداد طهران والضاحية لدفع ثمن خسارة قيادات في الإطار التنسيقي في الانتخابات النيابية، وإنّ هذه الخسارة لا تعني حتماً خسارة لإيران، خاصة بعدما عملت على نسج مصالحها مع مؤسسات الدولة، بعيداً عن المصالح الضيّقة المحكومة بمصالح هذه القيادات وفصائلها، فهذا يفيد بأنّ على الأطراف العراقية، خاصة داخل البيت الشيعي، تحمّل مسؤولية مواقفها الإيجابية والسلبية، وبأنّ خيارات التوافق أو التحالف أو المقاطعة أو المعارضة وعدم المشاركة هي خيارات على الجميع تحمّل تبعاتها، شرط أن لا تؤدّي أو تدفع الأوضاع الداخلية نحو الانفجار أو الانزلاق إلى حرب أهلية.

 

البيت الشيعي بيوتات

مع اقتراب الموعد الدستوري لانتخاب رئيس الجمهورية، وعشيّة قرار المحكمة الاتحادية العليا التي تنظر في دستورية الجلسة الأولى للبرلمان وانتخاب الرئيس ونائبيْه، تتصاعد حدّة التوتّر بين الأفرقاء، خاصة داخل المكوّن أو البيت الشيعي، وبنسبة أقلّ داخل المكوّن أو البيت الكردي، بعد ظهور منازل متعدّدة داخل كلّ منهما، على العكس من المكوّن أو البيت السنّيّ الذي دخل الانتخابات بمنازل متعدّدة، وخرج منها إلى الجلسة الأولى بمنزل أكبر لم يلغِ الغرف الصغيرة التي ما زالت تبحث عن نافذة تدخل منها إلى المنزل الأكبر حتى لا تضيع وتتقاسمها منازل الآخرين، ويصبح ساكنوها لاجئين لا طعم لهم ولا لون.

وإذا ما كان الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني استطاع أن يفرض نفسه المنزل الأكبر داخل البيت الكرديّ، على حساب منازل الاتحاد الوطني بزعامة بافل طالباني، وتيار الجيل الجديد الذي أفرزه الحراك الاعتراضي الذي بدأ بالتبلور داخل البيت الكردي في مواجهة هيمنة واستئثار الأحزاب التاريخية بمفاصل الحياة السياسية والاجتماعية في هذا البيت، فإنّ تداعيات الجلسة البرلمانية الأولى، وما كشفته عن وجود تحالف نُسِج في السرّ والخفاء بعيداً عن أعين جماعة الاتحاد الوطني، توحي بإمكانية أن تذهب الأمور إلى مزيد من التصعيد في حال لم يتوصّل الطرفان إلى تسوية في شأن مرشّح رئاسة الجمهورية الذي يُعتبر من حقّ الاتحاد الوطني الذي كرّسته الأعراف السياسية التي حكمت العملية السياسية وتوزيع المناصب السيادية بين الحزبين، بحيث تكون رئاسة الجمهورية للاتحاد، ورئاسة الإقليم للديموقراطي.

بغضّ النظر عن طبيعة القرار الذي سيصدر عن المحكمة الاتحادية، سواء حَكَم ببطلان الجلسة الأولى ودعا إلى إعادة انتخاب الرئيس ونائبيْه، أو أقرّ ما حصل في الجلسة الأولى، فإنّ النتائج التي ستخرج بها الجلسة الجديدة لن تحمل تغييراً في النتائج، لكنّها ستكون بعيدة عن الإشكال أو التشكُّك والطعن. في حين أنّ تحوُّلها إلى جلسة لانتخاب رئيس الجمهورية، حسب التوقيتات الدستورية، قد يأخذ المشهد إلى إحدى حالتين: إمّا الذهاب إلى تسوية داخل البيت الكردي تعيد إنتاج التفاهمات القديمة بين الديموقراطي والاتحاد الوطني، وتعيد رئاسة الجمهورية للأخير من خلال الاتفاق على مرشّح تسوية واستبعاد الرئيس الحالي برهم صالح، وإمّا أن يسير الديموقراطي بمرشّحه هوشيار زيباري، وتكريس معادلة جديدة داخل هذا البيت تُخرج الاتحاد من جميع المناصب والمواقع القيادية، سواء الاتحادية أو في الإقليم، لأنّ لدى الديموقراطي توجّهاً إلى الاستحواذ على منصب رئاسة الجمهورية، وموقعيْ النائب الأول لرئيس مجلس النواب ونائب رئيس الوزراء، وجميع الوزارات في الحكومة الاتحادية، واحتفاظه برئاستيْ الإقليم والوزراء وحتى البرلمان في الإقليم، الأمر الذي قد يدفع الاتحاد الوطني نحو التقسيم والتفرّد بإدارة محافظة السليمانية وحلبجة وإدارة كركوك.

في كلتا الحالتين، فإنّ اختلاف الكرد أو اتّفاقهم لن يخفّف من أزمة المكوّن أو البيت الشيعي، الذي يبدو أنّه يسير باتجاه الانقسام العمودي بين منزلتين: الأولى يسيطر عليها التيار الصدري ومشروعه القاضي بتشكيل حكومة أغلبية وطنية تكون نتيجة الاتفاق غير المعلن الذي عقده مع الجناح الأكبر والممسك بالقرار الكردي، ومع البيت السنّيّ الذي توحّدت منازله قبل الجلسة البرلمانية الأولى.

إقرأ أيضاً: الأزمة البنيويّة للمعارضة العراقيّة

أمّا الثانية، ويمثّلها التيار التنسيقي، فلم تحسم خياراتها بين البقاء كتلة واحدة والذهاب إلى خيار موحّد بالمشاركة جسداً واحداً من دون استبعاد أيّ من الأطراف، وتحديداً المالكي، حسب ما تسرّب من شروط وضعها الصدر، أو الذهاب إلى خيار المعارضة وما يعنيه من عدم المشاركة في الحكومة وتقاسم الحصص، أو الذهاب إلى المقاطعة وما فيها من إمكانية تعطيل وشلّ الحياة البرلمانية والحكومية، وما فيها من تداعيات مفتوحة على جميع الاحتمالات.

مواضيع ذات صلة

أميركا مطمئنّة.. ونتنياهو “يسرق الوقت”

عاد الموفد الأميركي آموس هوكستين من زيارته إلى المنطقة، ووصل إلى العاصمة الاميركية أمس. وقبل أن يصل إلى واشنطن كان قد طمأن عين التينة إلى…

مبعوث ترامب إلى الشّرق الأوسط: معجب “بروحانية” نتنياهو..

تشبه الشّخصيّات التي رشّحها الرّئيس الأميركيّ المُنتخب دونالد ترامب شخصيّته الجدليّة. فهو كما فاجأ المراقبين يومَ فازَ في انتخابات 2016، وبفوزه الكبير في انتخابات 2022،…

هوكستين موفد ترامب… فهل يضغط لإنجاز الاتّفاق؟

كثيرٌ من الضبابية يحيط بمصير المفاوضات التي قادها آموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، أو بالأحرى بين “الحزب” وإسرئيل، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي. التفاؤل…

الاتّفاق Done: إعلانه خلال أيّام.. أو أسابيع؟

بين واشنطن وتل أبيب وبيروت أصبحت شروط الاتّفاق معروفة، ولا ينقصها سوى لمسات أخيرة قد تستلزم يوماً واحداً، وقد تطول لأسابيع، أربعة ربّما. لكن ما…