احتار المراقبون (وليس في لبنان فقط) في تعليل “سماح” الحزب المسلَّح أخيراً للحكومة العتيدة بالعودة إلى الاجتماع. وأبسط التعليلات أنّ الرئيس نبيه برّي هو الذي أقنع الزعيم بالأمرين: السماح للحكومة بالاجتماع، والسماح للمفاوضات على البلوك رقم 9 بالعودة. وفي نظر أصحاب هذا التعليل (وليس في معلوماتهم!) أنّ كراهية الشعب اللبناني للحزب المسلَّح بلغت ذروةً أو قاعاً لم تعرفه من قبل. فالأفضل أن ينزاح الحزب عن واجهة التصعيد، وسواء في قصة البيطار أو قصة الغاز في البلوك رقم 9. وسيقول بعض “الشامتين” إنّ الحزب أو الثنائي انهزم أمام جبروت البيطار، أو إنّه تراجع أمام إسرائيل وأميركا. والواقع أنّ البيطار تعطّل أو عطّل نفسه. وأمّا حقل الغاز الجنوبي فإنّ الشيعة قبل غيرهم هم الذين يستفيدون من أيّ تطوّر إيجابي في ملفّه. وعلى أي حال، فإنّ جدول أعمال مجلس الوزراء سيظلّ بأيديهم مثل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ذاته، الذي تفوّق على نفسه في إرضاء عون تارةً، والأمين العام لحزب الله حسن نصرالله تارةً أُخرى. فالمطلوب الإزاحة عن واجهة مصائب اللبنانيين، وتركهم ينشغلون بالانتخابات، والحديث عند كلّ مصيبة (والمصائب يوميّة) عن قصور الميقاتي وتقصيره وعن حاكم المصرف المركزي المشتبك أخيراً مع مدّعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون.
في لبنان، وفيينا، والعراق، واليمن، لا تبدو طهران في أحسن حالاتها. فهي تخسر في فيينا تكتيكيّاً عندما تتنازل عن شرط رفع العقوبات كلّها. وهي تخسر في العراق باستبعاد أشدّ أنصارها حماسةً من الحكومة الجديدة. وفي لبنان البيطار باقٍ، والحكومة تعود للاجتماع
أمّا الذين يحبّون التعليلات “الاستراتيجية” فإنّهم يستشرفون ما يحدث في فيينا ومفاوضاتها. والطريف أنّه فيما يبدو الإيرانيون متفائلين، فإنّ الفرنسيين والأميركيين يبدون متشائمين. وقد عادت الشائعات عن ماهيّة التفجيرات والنيران قرب المواقع النووية الإيرانية. والواضح فقط أنّ التوجّه هو إلى اتّباع سياسة الخطوات الصغيرة المتبادلة: خطوة صغيرة في وقف التخصيب، تقابلها خطوة صغيرة في رفع العقوبات. إنّما من يعلّق الجرس أوّلاً أو من يقوم بالخطوة الأولى: الإيرانيون أم الأميركيون؟!
تراجع إيران في اليمن والعراق
وإلى هذا وذاك يبدو المشهد الإقليمي متغيّراً، وليس لمصلحة إيران لا في العراق ولا في اليمن. فقد عاد التعاون العسكري السعودي – الإماراتي باليمن. وبعد استعادة أو تحرير مديريّات محافظة شبوة من جانب قوات العمالقة الجنوبية، يحاول الجيش الوطني اليمني تحرير مديريّة حريب والجوبة في جنوب مأرب. وهناك طموح إلى تحرير محافظة البيضاء. وفي كلّ ذلك تبدو طائرات التحالف العربي سبّاقةً في مرافقة الجيش والعمالقة والمقاومة في تقدّمهم. والمهمّ أنّ الحوثيين صاروا في مواقع الدفاع والانسحاب: فهل يستمرّ هذا التحوّل البارز؟
وإذا وصلنا إلى العراق فإنّ مقتدى الصدر حقّق انتصاراً في انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبيْه. وهو يميل إلى إبقاء رئيس الجمهورية برهم صالح لدورةٍ ثانية مثلما حدث مع الحلبوسي، بل وربّما يبقى الكاظمي أيضاً. ويبدو أنّ الصدر سيتخلَّى عن قصة حكومة الأغلبية لمصلحة التوافق مع “الإطار التنسيقي” الشيعي المعارض له، بشرط استبعاد نوري المالكي. وقد ذهب رجلان إلى طهران: قيس الخزعلي المعارض الشديد لمقتدى الصدر، والثاني أحد المقرّبين من الصدر. فهل تقبل طهران “الصفقة” التي تستبعد المالكي (وقيس الخزعلي) مع أنّ لديهما قرابة خمسين نائباً في مجلس النواب الجديد؟! ثمّ إنّ قائد الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني جاء إلى النجف وبغداد للتفاوض.
في التطوّرات الجارية: في لبنان، وفيينا، والعراق، واليمن، لا تبدو طهران في أحسن حالاتها. فهي تخسر في فيينا تكتيكيّاً عندما تتنازل عن شرط رفع العقوبات كلّها أوّلاً. وهي تخسر في العراق باستبعاد أشدّ أنصارها حماسةً من الحكومة الجديدة. وحوثيّوها يتراجعون باليمن عسكريّاً بعد عامٍ من التقدّم الكبير. وفي لبنان البيطار باقٍ وإن تجمّد، والحكومة الميقاتية تعود للاجتماع. ويعود المبعوث الأميركي لتجديد مساعيه في التفاوض على حقل الغاز البحري.
فهل هي سياسة إيرانية جديدة باتجاه تسوياتٍ من نوعٍ ما وإن خالطها القسر والاضطرار؟
صحيح أنّ الحزب المسلَّح بلبنان يبدو كمن يضرب رأسه بالحائط، مع أنّ المعارضين له ما فعلوا شيئاً غير الإضراب. ومن ذلك عدم المشاركة في الحوار الذي دعا إليه عون. وقد كسبوا معهم هذه المرّة سليمان فرنجية حليف الممانعة الدائم عادةً.
هل هي خواطر وخطرات من جانب الحزب وأسياده، أم هي سياسات جديدة؟
ما يحدث في مفاوضات فيينا لا يمكن الاستهانة به. أمّا في اليمن والعراق ولبنان، وإن بدا أنّ هناك اطّراداً في اتجاهٍ معيّن، إلا إنّ الحديث عن سياساتٍ جديدة يبدو مبكراً ومبكراً جدّاً. ولنستعرض “تواريخ” الملفّات الأربعة في السياسات الإيرانية.
1- في الملفّ النووي إيران خاسرة حتى لو فجّرت القنبلة لأنّ العقوبات والعلاقات السيّئة مع العالم سوف تستمرّ وتتعاظم دونما اتفاق. والأرباح عظيمة في حالة الاتفاق وليس مع أميركا فقط، بل مع أوروبا والصين والهند… إلخ. وإذا صارت هناك مهادنة في الباليستيّات والتدخّلات فهناك مستقبل زاهر حتى في العلاقات مع العرب. ولذلك قد يكون الإقبال الإيراني غير اللافت حتى الآن واعداً بتغيّر كبير، وبخاصة أنّ الولايات المتحدة في الأصل هي التي خرجت من الاتفاق وليس إيران.
2- ولننظر إلى الملفّات الأخرى لتوضيح أسباب اختلاف التقدير: الاستيلاء الإيراني بالسلاح في العراق ولبنان جلب فوائد ماديّة إلى جانب الميزات الاستراتيجية. إيران تتعامل مع العراق بعشرات المليارات بسبب “تعجيز” العراق عن كل شيء في الماء والكهرباء والزراعة. ولذلك، وجوار العراق سبب آخر، لا تستطيع إيران التخلّي عن سياسات القوّة والابتزاز مع العراق بالذات.
3- ولبنان ميزة في الاستيلاء عليه بجوار إسرائيل والبحر المتوسّط. ثمّ إنّ حزب الله منذ أكثر من عقد صار يكسب ماديّاً من الاستيلاء على المرافق ومن التجارات غير المشروعة. والآن يأتي ملفّ الغاز، فلا تستطيع إيران التخلّي عن هذه الفوائد الاستراتيجية والماديّة في المدى المنظور.
4- أمّا اليمن فمن ثلاث سنوات على الأقلّ (منذ اتفاق استوكهولم) وضعت القيادة الإيرانية تقديراً استراتيجياً أنّه يمكن الاستيلاء على اليمن عسكرياً، فتكون هناك فوائد استراتيجية بارزة في البحار وفي البرّ وفي الجوّ: التحكّم بالبحر الأحمر ومضيق باب المندب، والتأثير حتى على البترول وتصديره، وتهديد أمن المملكة على طول. وهذا معنى إرسال حسن إيرلو المتوفّى أخيراً.
إقرأ أيضاً: الاضطراب العربيّ ومسؤوليّات المتسلّطين!
ما هو الثمن؟
لماذا نذهب إلى ذلك كلّه؟ لأنّ إيران لا تستطيع التخلّي عن العراق بأيّ ثمن. ولأنّها لا تتحمّل الآن خسارةً مهما صغرت في اليمن. فقد راهنت 3 سنواتٍ على الأقلّ على الانتصار العسكري. وأخيراً لأنّ حزبها في لبنان، الذي انتصر عسكريّاً دائماً، مقبلٌ على خسارةٍ سياسية لا ينفع في تجنّب عواقبها على مستقبله المئة ألف مسلَّح الذين هدَّد بهم نصر الله، فضلاً عن الاعتبارات الاستراتيجيّة الكبرى. ظنّوا أنّهم أمنوا بالعراق بالاستيلاء على البرلمان عام 2018 فتصدّعوا في الانتخابات الأخيرة. وظنّوا أنّهم أمنوا في لبنان ديموقراطياً أيضاً عام 2018، وها هم مهدّدون بالتصدّع. لذلك قد لا يستطيعون التنازل أو التراجع إذا لم تكن هناك هزيمة ساحقة، ولا يمكن التفكير فيها الآن في المواطن الثلاثة كما في الملفّ السوري. فالتعب مع الميليشيات الإيرانية مستمرّ وطويل، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.