أثناسيوس الجلخ: الراهب الهادئ والرجل الوطنيّ

مدة القراءة 8 د

غيّب الموت الأباتي أثناسيوس الجلخ الرئيس العامّ الأسبق للرهبانية المارونية (1928-2022).

هو ذلك الشاب الذي تخلّى عن اسمه الأصلي عند دخوله الرهبانية (وهو تقليد رهباني) واختار اسم قديس من القرون الأولى للمسيحية، ليصبح رئيساً لها في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين.

باكراً لمعت شخصيّة الأب أثناسيوس الرهبانيّة، فاختاره الرهبان على مدى أربعة وعشرين عاماً لإدارة شؤونهم. وقبل أن يكون رئيساً عامّاً، اُنتُخب مدبّراً عامّاً ثلاث مرّات (والمدبّر العامّ عضو في مجمع الرئاسة العامّة يعاون الرئيس العامّ في إدارة شؤون الرهبانيّة)، أظهر خلالها الراهب المتواضع والهادئ محبّةً صادقةً للرهبانيّة والرهبان، وأثبت أنّ لديه وعياً كبيراً للقضايا الوطنية في ظروف استثنائية من تاريخ لبنان.

باكراً لمعت شخصيّة الأب أثناسيوس الرهبانيّة، فاختاره الرهبان على مدى أربعة وعشرين عاماً لإدارة شؤونهم. وقبل أن يكون رئيساً عامّاً، اُنتُخب مدبّراً عامّاً ثلاث مرّات

في المرّة الأولى التي اُنتُخب الجلخ مدبّراً عامّاً (1968-1974)، كان لبنان يمرّ بحقبة تمدّد السلاح الفلسطيني، بعد توقيع اتفاق القاهرة، ويعيش بداية “تفكّك أوصال الدولة”. لم تكن الرهبانية على هامش الأحداث، وهي التي قدّمت أرضاً لإيواء اللاجئين الفلسطينيين في العام 1948، وكانت تاريخياً إلى جانب شعبها وتلتزم قضاياه. فكان لجامعتها دور فاعل في مواكبة تلك الحقبة. حاولت تدارك الانزلاق نحو المحظور، فعقدت ندوات سياسية وطنية حاضر فيها رجالات كبار أمثال شارل مالك وإدمون ربّاط وفؤاد إفرام البستاني وإدوار حنين وكمال يوسف الحاج وغيرهم. كما طُرِحت مواضيع وطنية لا تزال عناوينها مدار بحث ونقاش حتى اليوم، منها القومية اللبنانية،  والعلمانية، واللامركزية، والرفضية في لبنان…

كانت ندوات الكسليك مساحة حوار وانفتاح على الشريك في الوطن، ومنبراً لتطوير الحياة الوطنية للانتقال من “العشائرية الطائفية” إلى المواطنة. ومنها إنبثق ما عُرف بـ”لجنة البحوث” في الكسليك التي وضعت دراسات في بداية الحرب اللبنانية (1975- 1976) نُشرت في سلسلة “القضية اللبنانية” ومنها “لبنان في نظامه السياسي”، علمنة الدولة وإلغاء الطائفية السياسية”، “لبنان والهوية العربية”… وكان أثناسيوس الجلخ، الذي درس التاريخ ودرّسه على مدى عشرين عاماً في الجامعة، حاضراً وفاعلاً في ذاك النشاط، ومشجّعاً له انطلاقاً من الدور الوطني للرهبانية اللبنانية ودور الصروح العلمية في تطوير الأوطان والمجتمعات.

بعد نهاية ولايته انكفأ أثناسيوس الجلخ في الدير يصلّي ويتأمّل. وهذا ليس بالغريب عن الحياة الرهبانية حيث المسؤولية “خدمة” لفترة زمنية محدودة (6 سنوات). من داخل “الحصن الديريّ” كان الجلخ يتابع مأساة لبنان الذي غرق في الحروب المدمّرة، ويحمل في صلاته معاناة اللبنانيين موتاً وخوفاً وتهجيراً وهجرةً.

في العام 1980، عاد الراهب الهادئ إلى مجمع الرئاسة العامّة بعدما انتخبه الرهبان مدبّراً عامّاً للمرّة الثانية. فكانت سنوات ست صاخبة بالأحداث. وكانت الرهبانية على تماس مباشر معها، خاصة أنّ رئيسها العامّ هو عضو في الجبهة اللبنانية، وأديرتها منتشرة في كلّ المناطق، ورهبانها يعيشون معاناة اللبنانيين، كلّ اللبنانيين. كان على مجمع الرئاسة، والجلخ عضو فيه، أن يتعامل مع معركة زحلة وخطر تهجير جديد لأبناء مدينة مسيحية أخرى. ومع خطر الاجتياح الإسرائيلي الذي وضع لبنان أكثر وأكثر في قلب الصراعات الإقليمية، ومع خيبة المسيحيين بعد اغتيال الرئيس بشير الجميّل، ومع الصراع الدرزي – الماروني وتهجير الموارنة من جبل لبنان الجنوبي،  ومع تفاقم الصراعات المسيحية – المسيحية، سيطرة العسكر السوري على قسم كبير من الجغرافيا اللبنانية حيث للرهبانية أديرة ومراكز. إضافة إلى كل ذلك، كان على الجلخ مع، الرئيس العام والمدبّرين، إدارة المؤسسات الرهبانية وتطويرها والسهر على شؤون الرهبان الروحية والإنسانية.

نهوض لبنان مجدّداً

انتهت السنوات الستّ فعاد الجلخ إلى هدوء صومعته ليتفرّغ أكثر للعمل في الحقل وللقراءة، التي لم ينقطع عنها يوماً. فهو قارئ نَهِم، ولا سيّما لسِيَر القدّيسين والكتب التاريخية. فكانت الأولى تعلّمه عمق الصلاة من أجل رهبانيّته وكنيسته ولبنان وشعبه، والثانية تساعده على فهم جذور الصراعات في لبنان وأبعادها واستشراف ما ستؤول إليه.

زامنت ولايته الثالثة في موقع المدبّر العامّ للرهبانية (1992-1998) فترة إعادة الإعمار بعد الحرب. فعمل الجلخ، مع الرئيس العامّ والمدبّرين الآخرين، على إعادة إعمار الأديرة التي دمّرتها الحرب، وعلى تشجيع المسيحيين على العودة إلى مدنهم وقراهم وبلداتهم التي تهجّروا منها بهدف إعادة اللحمة إلى الشعب اللبناني. في تلك الفترة احتفلت الرهبانية بالذكرى المئوية الثالثة لتأسيسها (1695-1995)، وأعادت تأكيد التزامها بروحانيّتها وبشعبها وبوطنها.

بعد نهاية الولاية الثالثة كمدبّر عام لم يسمح الرهبان للجلخ أن يعود إلى صومعته، فانتخبوه رئيساً عامّاً (1998). ليقود الراهب السبعينيّ، المتقشّف في حياته والمحافظ على التقليد الرهباني، الرهبانية في عبورها من الألفيّة الثانية إلى الألفيّة الثالثة. وهي مهمّة صعبة في رهبانية تجاوز عمرها 300 عام، لها تقاليدها وقوانينها الصارمة.

استشرف القارئ للتاريخ أهميّة مواكبة الرهبانية للثورة التكنولوجية لتطوير مؤسّساتها من أجل خدمة المجتمع. فاتّخذ القرار بإعطاء دور أكبر للرهبان الشباب في إدارة المؤسّسات الرهبانية، بخاصّة التربوية والاستشفائية والاقتصادية. وعيّن في جامعة الروح القدس في الكسليك جيلاً شابّاً من الرهبان أدخلها في نظام الجامعات العالمي الذي بدونه لم يكن لأيّ جامعة أن تستمرّ ليس فقط في لبنان إنّما في العالم أيضاً. وفي المدارس أحدث جيل الرهبان الشباب نهضة كبيرة لمواكبة عصر المعلوماتية والثورة التكنولوجية. وكذلك فعلوا في إدارة اقتصاد الرهبانية.

ما قام به الرئيس العامّ أثناسيوس الجلخ على هذا الصعيد يمكن تسميته بـ”الثورة”. “ثورة” أكملت ولم تنقُض. وأرفقها بتجديد القوانين الرهبانية، بحيث “تثبّت هويّة الرهبانيّة

3 ساعات مع الحريري

ما قام به الرئيس العامّ إثناسيوس الجلخ على هذا الصعيد يمكن تسميته بـ”الثورة”. “ثورة” أكملت ولم تنقُض. وأرفقها بتجديد القوانين الرهبانية،وكتب في المقدّمة بأنها قوانين “تثبّت هويّة الرهبانيّة… وتسهم في إنجاح دور الرهبانيّة، كمدرسة قداسة…”.  كلماته هذه تؤكّد أنّ المسؤوليّات والمناصب والأضواء لم تجعله يضيّع بوصلة الحياة الرهبانية: السعي إلى القداسة.

خلال دراسة قوانين الرهبانية سألته: “لماذا لا نصوغ قوانين تجعل من المجمع العام (وهو المجلس الذي يضمّ ممثّلين عن الرهبان) سلطةً مستقلّةً عن مجمع الرئاسة كما المجلس النيابي سلطة مستقلّة عن رئيسيْ الدولة والحكومة في الأنظمة الديموقراطية؟”. أجابني: “أساس الحياة الرهبانية هي النذور، وأوّلها الطاعة. والديموقراطية في الرهبانية سقفها الطاعة للرئيس وجوهرها المحبّة”.

أكسبت هذه الروح الرهبانية أثناسيوس الجلخ هدوءاً وسلاماً داخليّين. كان يعكسهما على محاوِره، أيّاً كان المحاوِر. في العام 1999 شاركتُ في اللقاء الأوّل له مع الشهيد رفيق الحريري في دير الرئاسة العامّة في غزير. أُعجب الرجل الآتي من صخب عالم السياسة والأعمال والمال بهدوء الراهب الآتي من مدرسة الصلاة والتأمّل والتقشّف. طلب لقاءً آخر. فكان له. استمرّ الاجتماع الثاني لأكثر من ثلاث ساعات كان خلالها الأب العامّ أثناسيوس الجلخ مصغياً إلى المشروع السياسي والاقتصادي لرفيق الحريري ورؤيته للبنان. ومتحدثاً حول هويّة لبنان وتاريخه ومستقبله وهواجس المسيحيين وقلقهم على حاضرهم ومستقبلهم. أظهر حديثه سِعة اطّلاع الجلخ وشعوره وطني. خلال اللقاء طرحتُ على الحريري أسئلة جريئة، لا بل هجومية، تخالف أسلوب الجلخ. وعلى الرغم من ذلك تحمّلها، ولم يوجّه لي أيّ ملاحظة.

بعد نهاية ولايته رئيساً عامّاً عاد أثناسيوس الجلخ نهائيّاً إلى صومعته ليعيش الحياة الهادئة الأحبّ إلى قلبه: العمل والقراءة، التي هي في التقليد الرهباني صلاة بحدّ ذاتها إلى جانب الصلوات في الكنيسة.

إقرأ أيضاً: هل قرّر السيّد القضاء على اللبنانيّين في “جهنّم” عون؟!

فقدانه البصر في السنوات الأخيرة لم يُفقده البصيرة. لا بل ساعده على رؤية أوضح لجوهر الحياة الرهبانية ولعِلّة وجود لبنان. وتراجع قدرته على السَمَع ساعده على سَماعٍ أنقى لصوت الله. فأنهى سنواته الأربع والتسعين الهادئة غارقاً في سرّ الله ومصلّياً من أجل لبنان.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

مواضيع ذات صلة

فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن…

مصرع السنوار في مشهد لا يحبّه نتنياهو

مات يحيى السنوار، رئيس حركة حماس منذ اغتيال سلفه إسماعيل هنية في 31 تموز الماضي، وهو يقاتل الجيش الإسرائيلي، في إحدى أسخن جبهات القتال في…

الحزب بعد “السّيّد”: الرأي الآخر… ومشروع الدّولة

هنا محاولة لرسم بورتريه للأمين العامّ للحزب، بقلم كاتب عراقي، التقاه أكثر من مرّة، ويحاول في هذا النصّ أن يرسم عنه صورةً تبرز بعضاً من…

الياس خوري رحل إلى بيروته وتركنا لأشباحها

عن 76 عاماً، قضاها بين الورق والحبر والكتب والنضال من أجل تحرير فلسطين والإنسان العربي، غادرنا الروائي والقاصّ والناقد والأكاديمي الياس خوري، تاركاً فراغاً يصعب…