صدر كتاب في الولايات المتحدة عنوانه “لماذا تفشل الأمم؟”. وعلى الرغم من أنّ لبنان لم يكن في حساب المؤلّفَيْن، إلا أنّ الكتاب يقدّم صورة وصفيّة لأسباب فشل لبنان وانهياره.
وضع الكتاب عالِمان يتمتّعان بسمعة أكاديمية عالية. الأوّل هو أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفرد جيمس روبنسون، والثاني هو أستاذ الاقتصاد في جامعة MIT الشهيرة، دارون أسيموغلو.
يقول الكتاب إنّ “التباين بين الأمم يقوم أساساً وبصورة أوّلية على المؤسسات، فإذا كانت السلطة مؤسساتية، فإنّ حظوظها في النجاح تكون كبيرة جدّاً. أمّا إذا كانت السلطة بيد أشخاص محدّدين فإنّ مصيرها الحتميّ هو الفشل والانهيار”.
وفي لبنان، كما هو معروف، تكاد تكون السلطة محصورة ومتداولة بين أشخاص محدّدين “أجداداً وأحفاداً”. من أجل ذلك تقول مجلّة “الإيكونوميست” (عدد آب 2020): “لم يكن التقاتل ولا الاحتلال الأجنبي هما اللذين أدّيا إلى تدمير معظم أجزاء مرفأ بيروت. كان ذلك تعبيراً عن عجز دولة فاسدة ومتفكّكة. لا يُصلح الوضع سوى عمل جريء. فعلى الحكومة أن تلقي جانباً نظام اقتسام الحصص الآن وقبل الغد، وأن تستبدله بنظام أكثر ديموقراطية وأكثر عدالة”.
إذا لم يعمل اللبنانيون على تصحيح الخلل في الولاء الوطني والتخلّص من نظام سياسي مبنيّ على الزبائنية والفردية الطائفية والمذهبية، فعبثاً يبحث لبنان عن طريق تُخرجه من هوّة الفشل التي يترنّح فيها الآن
وتصف المجلّة أصحاب الحلّ والعقد في لبنان بأنّهم يلعبون بمخاوف وطموحات الجماعات الطائفية. وهي لعبة قد تدفع بالدولة مرّة ثانية إلى أتون العنف. ولاحظت المجلّة أنّ قادة الجماعات المسلّحة خلال الحرب الأهليّة هم الذين يتولّون الآن زمام الحكم في الدولة التي ينهبون خيراتها. وتنقل المجلّة عن البنك الدولي أنّ نظام الزبائنيّة والمحسوبيّات يكلّف الدولة اللبنانية 9 في المئة من الدخل القومي.
يمثّل نظام الزبائنية الكارثيّ، كما تصفه مجلّة الإيكونوميست، الوجه الآخر لنظام المحاصصة الطائفية الذي يضع السلطة بيد أشخاص يمثّلون طوائفهم وليس بيد مؤسسات دستورية عابرة للطوائف.
نعود إلى كتاب “لماذا تفشل الأمم؟”. فالكتاب الذي لم يذكر أيّ دولة بالاسم، يبدو كما لو أنّه يتحدّث عن الدولة اللبنانية، بشكل أو بآخر. ذلك أنّها تجمع كلّ المواصفات التي يذكر الكتاب أنّها تؤدّي إلى الفشل والانهيار. وأولى هذه المواصفات تقديم الشخصيّ على العامّ، أي على المؤسّسة، وتقديم الطائفي على الوطني. ولعلّ ما هو أسوأ وأشدّ خطراً أن تقدّم الولاء للخارج – والخارج هنا ليس واحداً بل متعدّد – على الولاء للداخل.
يقول المؤلّفان في كتابهما الذي تصدّر قائمة المبيعات في الولايات المتحدة، ثمّ تُرجِم إلى لغات أخرى، إنّ “إقامة مؤسسات اقتصادية تتبادل الدعم مع المؤسسات السياسية (بصيغة التنوّع والتعدّد) تساعد على توزيع عادل ومتوازن للسلطة، وتعزّز مركزيّة الدولة لفرض القانون الذي يقوم عليه نظام الحقوق العامّة والفرديّة الخاصّة”.
ويؤكّد المؤلّفان أنّ “الدرس الأهمّ الذي يجب استيعابه لتجنّب الوقوع في الفشل والانهيار أنّه لا يمكن لأيّ دولة أن تصحّح أوضاعها الاقتصادية إذا لم تصحّح أوّلاً أوضاعها السياسية”. ويقدّم المؤلّفان أمثلةً على ذلك دولَ أوروبا الشرقية بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق. والدرس الذي يمكن أن يتعلّمه لبنان من هذه التجارب الإنسانية أنّ نظاماً سياسياً فاسداً لا يمكن أن ينجح في تقديم نظام اقتصادي – اجتماعي ناجح.
إقرأ أيضاً: مصادر عربيّة لـ”أساس”: مخاوف أمنيّة تهدّد لبنان
لذلك فإذا لم يعمل اللبنانيون على تصحيح الخلل في الولاء الوطني والتخلّص من نظام سياسي مبنيّ على الزبائنية والفردية الطائفية والمذهبية، فعبثاً يبحث لبنان عن طريق تُخرجه من هوّة الفشل التي يترنّح فيها الآن.
وفي الكتاب ضوء ينير النفق المظلم الذي قد تجد أيّ دولة نفسها تائهة فيه. فالفشل ليس مرضاً مستعصياً على الشفاء. لكنّه في الوقت ذاته ليس من الأمراض التي تُعالَج بالمراهم والمسكّنات (حبّات الأسبرو). إنّه يحتاج أوّلاً إلى الاعتراف بالمرض، ثمّ إلى تشخيصه وتحديد أسبابه، وربّما إلى جراحةٍ لاستئصال ورم خبيث اسمه الطائفية السياسية.