مرّت قبل أيّام الذكرى المئة وسنة واحدة على قيام الجيش العراقي. لا يزال الجيش العراقي هو الأمل بالنسبة إلى العراق، وذلك على الرغم من الأخطاء المميتة التي ارتكبها هذا الجيش بدءاً بانقلاب بكر صدقي في العام 1936 وصولاً إلى تحوّله إلى أحد الجيشين العراقيّين في الوقت الراهن بوجود “الحشد الشعبي”. الأكيد أن ليس في الإمكان تجاهل الخطيئة الكبرى للجيش العراقي عندما نفّذ انقلاباً دموياً للتخلّص من النظام الملكي صيف العام 1958، وهو انقلاب لم يرَ العراق بعده يوماً أبيض!
جعلت “الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانية من “الحشد” رديفاً للجيش العراقي كي لا تقوم لهذا الجيش قيامة في يوم من الأيّام.
يمرّ العراق هذه الأيّام في مرحلة دقيقة، خصوصاً بعدما نجح في تثبيت نتائج الانتخابات التي أُجريت في تشرين الأوّل الماضي. وتثبت النتائج التي أشرفت عليها حكومة مصطفى الكاظمي أنّ القوى الساعية إلى استعادة العراق من إيران لها ثقلها. عملت الميليشيات المذهبيّة التابعة لـ”الحرس الثوري” الإيراني كلّ ما تستطيع لنسف نتائج الانتخابات التي أثبتت أنّ الشعب العراقي يرفض، بأكثريته الساحقة، الهيمنة الإيرانيّة.
ستكون المعركة المقبلة أمام العراق معركة تشكيل حكومة جديدة تعمل بالفعل من أجل العراق، وتثبت أنّ العراق هو العراق وأنّ إيران هي إيران. لا شكّ أنّ الكثير سيعتمد على الشخص الذي سيشكّل مثل هذه الحكومة، وهل ستتمكّن الميليشيات الإيرانيّة من تصفية حساباتها مع مصطفى الكاظمي المرتبط بعلاقة جيّدة مع مقتدى الصدر؟
ليس سرّاً أنّ مقتدى الصدر يمتلك أكبر كتلة نيابيّة، وليس سرّاً أيضاً ميله إلى الدفع في اتجاه تكليف الكاظمي، الذي ليس معادياً لإيران، تشكيل الحكومة الجديدة. لكنّ الكثير سيعتمد على ما إذا كانت اللعبة الديموقراطيّة ستأخذ مسارها الطبيعي بدل حصول مناورات سياسيّة وغير سياسية تنسف الأسس التي تقوم عليها هذه اللعبة. لم تكن محاولة اغتيال الكاظمي بواسطة طائرات مسيّرة استهدفت منزله قبل بضعة أسابيع سوى جزء من هذه المناورات التي تقوم بها الميليشيات التابعة لإيران والمنضوية تحت لواء “الحشد الشعبي”.
من هنا، لا بدّ من العودة إلى موضوع الجيش العراقي وما إذا كان هذا الجيش سيصبح القوّة الوحيدة التي تمتلك السلاح أم أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” ستفرض النموذج الإيراني على العراق. هذا هو الامتحان الحقيقي الذي سيواجه العراق في عهد الحكومة الجديدة التي سيحتاج تشكيلها إلى أخذ وردّ طويلين بعدما قرّرت طهران لعب دور المصلح والحكم بين العراقيين إثر انكشاف ضعفها في الداخل العراقي. بكلام أوضح، هذا دور علي قاآني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الذي يزور بغداد بين حين وآخر لتأكيد أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” على مسافة واحدة من الجميع، في حين يعرف الطفل العراقي أن لا وجود للميليشيات المذهبيّة ولـ”الحشد الشعبي” كلّه من دونها.
سيظلّ السؤال الذي سيطرح نفسه في المرحلة المقبلة: هل مسموح عودة الجيش العراقي كي يكون ضمانة لكل العراقيين، وهو رهان مصطفى الكاظمي؟ الجواب بكلّ بساطة أنّ كل الجهود بذلت منذ العام 2003 من أجل منع قيام مثل هذا الجيش. الدليل على ذلك القرار الذي اتّخذه بول بريمر المفوّض السامي الأميركي في العراق، والقاضي بحلّ الجيش العراقي مباشرة بعد سقوط نظام صدّام حسين في نيسان 2003.
تكشّف مع مرور الوقت أنّ هذا القرار الذي اتّخذه بريمر، والذي ربط بين الجيش العراقي وصدّام حسين ونظامه، كان من بين أسوأ القرارات التي اتّخذها الاحتلال الأميركي. صبّ هذا القرار، الذي دفع الأكراد في اتجاه اتّخاذه أيضاً، في خدمة إيران التي لم تنسَ أنّ الجيش العراقي قاتلها طوال ثماني سنوات في حرب دفاعيّة فُرِضت عليه. صحيح أنّ صدّام حسين أساء إلى الجيش العراقي عندما زجّ فيه أمّيّين من مستوى حسين كامل وعلي حسن المجيد، وحولّهما مع آخرين من سقط المتاع إلى ضبّاط كبار، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ هناك هيكليّة كان لا بدّ من المحافظة عليها تفادياً لتشظّي العراق. لكن ما العمل عندما وضع الاحتلال الأميركي نفسه في خدمة المشروع الإيراني في العراق؟
عاجلاً أم آجلاً سيطرح موضوع الجيش العراقي نفسه وسيعود الموضوع إلى الواجهة لا لشيء إلّا لأنّ هذا الموضوع سيحدّد ما إذا كان العراق دولة قابلة للحياة أم لا… أم سيبقى البلد تحت رحمة الميليشيات المذهبيّة التي تديرها طهران، والتي عادت إلى بغداد على ظهر دبابة أميركية!
ما يبعث بعض التفاؤل في ما يخصّ مستقبل العراق أنّ الهيمنة الإيرانية عليه، منذ العام 2003، أحيت الروح الوطنيّة العراقيّة، بما في ذلك لدى الشيعة العراقيين. هؤلاء اكتشفوا أخيراً أن لا مشروع قابلاً للتصدير لدى “الجمهوريّة الإسلاميّة” باستثناء نشر البؤس واستخدام العراق ورقة في صفقة يسعى إليها الإيرانيون مع “الشيطان الأكبر” الأميركي، وهو “الشيطان” ذاته الذي مكّنهم من الانتقام من العراق وتحقيق حلم قديم بالسيطرة على بغداد.
ستكون عودة الحياة إلى الجيش العراقي الامتحان الأهمّ في مرحلة ما بعد تشكيل حكومة جديدة. من الواضح أنّ البلد ذاهب إلى الخراب في حال بقاء “الحشد الشعبي” الذي لا مهمّة لديه سوى إثبات أنّ العراق يُحكم من طهران وليس من مكان آخر. هذا ما تؤكّده التصريحات والتصرّفات التي تصدر بين حين وآخر عن قادة ميليشيات عراقيّة في العراق. تسعى هذه الميليشيات إلى تبرير وجودها بوجود خبراء عسكريين أميركيين في العراق. هؤلاء الخبراء سيبقون في العراق بعد انسحاب القوات الأميركية و”إنهاء مهمّاتها القتاليّة” بموجب اتفاق توصّل إليه مصطفى الكاظمي مع الرئيس جو بايدن الصيف الماضي.
باختصار شديد. لا يمكن أن يكون هناك جيشان في بلد واحد. إمّا الجيش العراقي أو “الحشد الشعبي”. ما الذي سيختاره العراق بعد كلّ هذه السنوات العجاف وبعد ظهور بصيص أمل بأنّ العراقيين ليسوا مستعدّين، في أكثريتهم الساحقة، للبقاء في ظلّ الهيمنة الإيرانية لا أكثر…