استطاع الزعيم الكردي مسعود بارزاني أن يسقط “الإطار التنسيقي” (يضمّ الأحزاب الشيعية القريبة من إيران، وقوى مسيحية وسنيّة متحالفة عراقياً معها) بالضربة القاضية، ويمهّد لإضعاف دور الأحزاب والفصائل المنضوية تحت لوائه داخل السلطة، ومعها كلّ حلفاء الإطار من المكوّنات الأخرى الكردية والسنّيّة. وقد كرّسه هذا الواقع زعيماً ممسكاً بمفاصل القرار العراقي، ومتحكّماً بمصير الرئاسات الثلاث.
لعب بارزاني دوره بصمت، وأوحى بأنّه لن يذهب إلى ترجيح كفّة طرف على طرف آخر داخل أيّ من المكوّنات، إلا أنّه عمل، في المقابل، بشكل دؤوب على تذليل العراقيل والدفع نحو إعلان تحالف داخل المكوّن السنّيّ يضمن بموجبه إعادة انتخاب محمد الحلبوسي لدورة جديدة مقابل إعطاء قيادة هذا التحالف لزعيم كتلة “عزم” خميس الخنجر. وهو اتفاق وُلد عشيّة الجلسة الأولى، وشكّل إعلانه صفعة لـ”قوى الإطار”، التي كانت تراهن على استمالة الخنجر في معركتها للاستحواذ على موقع رئاسة الحكومة وترجمة شعارها بـ”رفض التجديد للرئاسات الثلاث.
لعب بارزاني دوره بصمت، وأوحى بأنّه لن يذهب إلى ترجيح كفّة طرف على طرف آخر داخل أيّ من المكوّنات، إلا أنّه عمل، في المقابل، بشكل دؤوب على تذليل العراقيل
كشفت الأحداث، التي شهدتها الجلسة البرلمانية، وإعادة انتخاب الحلبوسي بأغلبية 200 صوت، عن وجود تحالف غير معلن بين الحزب الديموقراطي الكردستاني – بارزاني وتحالف تقدّم – عزم (الحلبوسي – الخنجر) وبين التيار الصدري. لأنّ الأصوات التي حصل عليها الحلبوسي تشكّل مجموع أصوات هذه التكتّلات مجتمعة. وهو تحالف جاء على حساب كلّ التفاهمات والحوارات التي جرت مع الأحزاب الأخرى،والتي تمّ التوافق حولها وكان من المفترض أن تُترجم عمليّاًفي الجلسة الأولى.
صدم هذا التطوّر حزب الاتحاد الديموقراطي بقيادة بافل طالباني، الشريك المفترض لبارزاني.فانسحب من الجلسة البرلمانية مع نواب “الإطار التنسيقي” وبعض الأحزاب من المكوّنات الأخرى. خاصة أنّ استبعاد “جماعة الاتحاد” اُستُكملت باختيار شاخوان عبدالله عن الحزب الديموقراطي لتولّي منصب النائب الثاني لرئيس البرلمان، بعد انتخاب حاكم الزاملي عن التيار الصدري لمنصب النائب الأول. واعتبر الاتحاد أنّ الأحداث التي شهدها البرلمان تشير إلى خروج الحزب الديموقراطي على التفاهمات السابقة، ووجود نيّة لدى بارزاني لمصادرة موقع رئيس الجمهورية.فما كان من الاتحاد إلا أنأعلن تمسّكه بإعادة انتخاب الرئيس الحالي برهم صالح لولاية جديدة.وفي المقابل لجأ الحزب الديموقراطي إلى التهدئة على لسان سكرتير المكتب السياسي فاضل ميراني، داعياً الاتحادإلى التروّي وقراءة المشهد بدقّة، لأنّ حصول الحزب الديموقراطي على موقع النائب الثاني لرئيس البرلمان كان رسالة للاتحاد بتخلّي بارزاني عن موقع رئاسة الجمهورية.
الصدر ممثّلاً وحيداً للشيعة
هذه المواقف، مع زيارة بافل طالباني للرئيس برهم صالح، وإن كانت قد أعادت وضع الأخير في دائرة العودة، وفرضت على الديمقراطي العودة إلى التفاهم والقبول بالتجديد لصالح كمرشح توافقي بين الفريقين بهدف الحفاظ على وحدة المكوّن الكردي التي دخلت دائرة التهديد والانقسام تحت ضغط التصعيد الذي لجأ إليه “الطالباني” والتهديد بالعودة للمطالبة بإنشاء إقليم سليمانية – كركوك بقيادة الطالباني والاتحاد، مقابل إقليم أربيل – دهوك بقيادة بارزاني – الديمقراطي.
إلا أنّها تعمّق جراح “الإطار التنسيقي”. لأنّ المسار، الذي اتّخذته الأمور مع عودة الحلبوسي وإمكانية عودة صالح،أسقط نهائياً موقفه الرافض لإعادة تدوير الرئاسات الثلاث. على الأقلّ في رئاستيْ البرلمان والجمهورية. ما كرّس التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر ممثّلاً وحيداً للمكوّن الشيعي في العملية السياسية.
تمخّضت الجلسة الأولى للبرلمان عن حقائق سياسية بات من الصعب تجاوز آثارها وأبعادها وتداعياتها على المشهد العراقي.
كشفت الأحداث، التي شهدتها الجلسة البرلمانية، وإعادة انتخاب الحلبوسي بأغلبية 200 صوت، عن وجود تحالف غير معلن بين الحزب الديموقراطي الكردستاني وبين التيار الصدري
1- الحقيقة الأولى أنّ حواراً وتحالفاً نُسِجا بالخفاء بين بارزاني والصدر والحلبوسي، على العكس من الحوارات العلنيّة والمواقف المعلنة لبارزاني والصدر. وهي التي سهّلت إخراج المشهد في اليوم البرلماني الأول، ودفعت المتضرّرين إلى اعتباره انقلاباً على العملية السياسية ومحاولة إقصاء قوى فاعلة ذات تمثيل شعبي وسياسي حقيقي.
2- كرّست الحقيقة الثانية بارزاني شخصية محورية في المشهد العراقي، تمسك بخيوط اللعبة من خلف الكواليس، بحيث يمكنه رسم معالم القوى الشريكة له من المكوّنات الأخرى.
3- الحقيقة الثالثة أنّ ما حصل في البرلمان أطاح بكلّ محاولات وجهود التفاهم داخل المكوّن الشيعي بين قوى “الإطار التنسيقي” وبين “التيار الصدري”، وجعل من الصعب عودة الطرفين إلى طاولة الحوار واللقاء والتنسيق. خاصة أنّ الفرصة باتت مؤاتية أمام الصدر للدفع بمشروعه القاضي بتشكيل حكومة أغلبية وطنية مع حليفين أساسيّين يملكان التمثيل الشعبي والبرلماني والسياسي من المكوّنين السنّيّ (الحلبوسي – الخنجر) والكردي (بارزاني). وبات من السهل على الصدر التفرّد بتسمية رئيس الوزراء المقبل، فضلاً عن التحكّم بالحصّة الشيعية في مجلس الوزراء والدرجات الخاصة والمديرين العامّين.
4- الحقيقة الرابعة أنّ الصدر، المتحكّم بموقع رئاسة الحكومة، قد لا يكون ملزماًبالتجديد للرئيس الحالي مصطفى الكاظمي. خاصة أنّ الأجواء باتت مهيّأة للعودة إلى الشعار الذي رفعه قبل الانتخابات وبعدها، وهو أنّ رئيس الوزراء المقبل سيكون “صدري قح”.وهذا سيفضي إلى الذهاب نحو خيار التأسيس لمرحلة جديدة داخل المكوّن الشيعي، ذات طابع صدريّ، مهمّتهاإعادة ترتيب إدارات الدولة وتفكيك الدولة العميقة التي بناها رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.
5- الحقيقة الخامسة أنّ المشهد الذي بدأ يتشكّل في العملية السياسية العراقية، يضع قوى “الإطار التنسيقي”، من أحزاب وفصائل داخل المكوّن الشيعي، أمام واحدمن خيارين:
– إمّا أن تقبل الذهاب إلى المعارضة وتشكّل ورقة ضغط على الحكومة الصدرية المنتظرة باستخدام الأدوات القانونية داخل البرلمان وعلى المستوى السياسي.
– وإمّا أن تذهب إلى تصعيدٍ قد يضع العراق على صفيح ساخن،خاصة على الساحتين الشيعية والكردية.
إقرأ أيضاً: العراق: 8 فرص ضاعت… والآتي أصعب
وإذا ما كانت أطراف الصراع واضحةً داخل المكوّن الشيعي. فإنّ الساحة الكردية تُعتبر قابلة للتفجّر أيضاً على خلفيّة الخلافات بين السليمانية – طالباني وأربيل –بارزاني.إذ إنّ هنا خوفاً من أن تعود قيادة الاتحاد –طالبانيإلى مشروعها القديم والمستمرّ، بالسعي لإقامة إقليم خاصّ بها، في السليمانية وكركوك، منفصل عن إقليم أربيل والدهوك.