بدأ “أساس”، منذ اليوم الأخير في 2021، بنشر سلسلة مقالات وتقارير تحاول قراءة أبرز أحداث العام الماضي، وما ستتركه من تداعيات على العام الجديد 2022.
لم يشهد العام 2021 في لبنان حدثاً مفصليّاً أو “تأسيسيّاً” على غرار العام 2020، الذي شهد حدثاً تحوُّليّاً بتبعاته الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية، وهو الانفجار في مرفأ بيروت في الرابع من آب. لكنّ العام 2021 شهد على انسداد غير مسبوق للأفق السياسي. ففيما كانت الأزمة الاقتصادية تتفاقم على نحو كارثيّ، كانت الكتل الطائفية في الحكم تمارس الفيتو السياسي الطائفي لفرض شروطها في تأليف الحكومة، على نحو جعلها شريكة، كلٌّ منها بحسب حجم نفوذها، في تعميق الانهيار اللبناني. فقد أضرّت هذه الكتل على نحو مباشر ويوميّ بمصالح ناخبيها فيما كانت تمارس أشدّ الادّعاءات أنّها تمثِّل مصالحهم السياسيّة لتبرير تعطيلها تشكيل الحكومة.
لم يشهد العام 2021 في لبنان حدثاً مفصليّاً أو “تأسيسيّاً” على غرار العام 2020، الذي شهد حدثاً تحوُّليّاً بتبعاته الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية، وهو الانفجار في مرفأ بيروت في الرابع من آب
على هذا النحو كان العام 2021 عاماً مفصليّاً لا بحَدَث بذاته، بل بالممارسة السياسية للكتل الطائفية، وخصوصاً الكتلتين المسيحية والشيعية اللتين، ويا للمفارقة، وظّفتا نفوذهما الصاعد في الدولة لا لتسيير عجلتها، بل لتعطيلها في أحلك الظروف.
هذا سلوك سياسي غير مسبوق في تاريخ الجمهورية، إذ تمكّنت الكتل السياسية النافذة من فرض أولويّاتها على الدولة والمجتمع من دون أن تتمكّن أيّ مؤسسة دستورية أو أيّ حالة شعبية من ردعها ومحاسبتها على الإضرار بمصالح المواطنين الذين رأوا شروط حياتهم تتداعى أمام أعينهم، وفي الوقت نفسه كانوا عاجزين عن الضغط على القوى النافذة لدفعها إلى الإقلاع عن سياسات التعطيل.
هذا الاختلال الكبير في الممارسة السياسيّة لقوى السلطة ولآليّات التصدّي لها لم يترك انعكاسات على مجمل البلد وحسب، بل إنّ تبعاته طالت الخريطة السياسية ضمن كلّ طائفة. وفي هذا الإطار لا بدّ من الأخذ في الاعتبار أنّ الحزب يشكّل “حالة طائفية” فريدة بالنظر إلى تحوّله لاعباً عسكرياً إقليمياً. فلا تستقيم مقارنته بالقوى السياسية الطائفية الأخرى بشكل مطلق. لكن مع ذلك لم ينجُ من التبعات السياسية والشعبية للأزمة، لأنّه كما سائر قوى السلطة لم يستطِع تأدية دور إيجابي على الرغم من نفوذه الكبير، بل كان دوره سلبياً بالقياس إلى تبعات الأزمة على المجتمع اللبناني ككلّ لا على بيئته الطائفية التي حاول التخفيف من وطأة الانهيار عليها، لكنّ مبادراته لتلبية حاجاتها لم تنجُ من الارتباك.
لذلك تحثّ مسارات العام 2021 على الولوج إلى دواخل الطوائف لمعاينة التحوّلات السياسيّة التي شهدتها ومن المفترض أن تلقى ترجماتها في العام 2022 على المستويين الشعبي والسياسي، لا في الانتخابات التشريعية المقرّرة في أيّار المقبل وحسب، بل أيضاً في التعبيرات السياسية الشعبية التي باتت تأخذ أشكالاً مختلفة في لبنان، سواء عبر الإعلام أو وسائل التواصل أو عبر وقفات الاحتجاج المتأرجحة لكن الكامنة التي لا يمكن الجزم أنّها بلغت نهاياتها.
والتحوّلات داخل الطوائف يمكن اختصارها على الشكل الآتي:
1- الطائفة الشيعية: لقد بنى الحزب سرديّته السياسية طوال السنوات الماضية على معادلة أنّه “يكون حيث يجب أن يكون”، باعتبار أنّ وجوده في نزاعات المنطقة له عائدات مباشرة وإيجابية على نفوذه في لبنان وعلى الوضع اللبناني ككلّ. على هذا النحو عدّ الحزب انتخاب الرئيس ميشال عون انتصاراً له، ولذلك قدّمه لجمهوره بوصفه أولى الثمار السياسية لقتاله في سوريا والعراق واليمن. ثمّ أظهر الحزب وعلى غير عادته اهتماماً بالغاً بالملفّات الداخلية حتّى في أدقّ تفاصيلها باعتبار أنّ العهد الجديد فتح له الباب واسعاً للدخول إلى الحكم والدولة بوصفهما هذه المرّة حكمه ودولته. لكن سرعان ما وقعت الأزمة الاقتصادية في خريف 2019، فانقلب الانتصار السياسي بحلول العام 2021 انهياراً اقتصادياً ونكبة اجتماعية. فما لبثت “الشيعية السياسية” التي “تمأسست”، ويا للمفارقة، مع انتخاب الرئيس الماروني “القويّ” ميشال عون، أن دخلت في دوّامة مأزقيّة. إذ في أوج انتصارها السياسي انهار البلد، وذلك بخلاف “المارونية السياسية” و”السنّيّة السياسية” اللتين ارتبطتا بقصّة ازدهار لبناني، وإن على المديين القصير والمتوسط. أمّا “الشيعيّة السياسيّة” فارتبطت بقصة الانهيار، وظهرت منكفئة بقوّة إلى داخل بيئتها الضيّقة، وقد زاد الانهيار في انكفائها، خصوصاً أنّ غالبيّة لبنانية باتت تحمّل الحزب المسؤولية الكبرى عن هذا الانهيار بالنظر إلى انخراطه في نزاعات المنطقة.
لذلك خلّف هذا المسار العامّ تبعات على طرفيْ الثنائي الشيعي، أي الحزب وحركة “أمل”. فالحزب فشل في تقديم ترجمة إيجابية لمشروعه الإقليمي في الداخل اللبناني، وقد زاد الانهيار من إقليميّته وشيعيّته على حساب لبنانيّته، وهذا ليس بلا ارتدادات سياسية سلبية عليه. وأمّا الحركة فقد تقلّص دورها أكثر بتقلّص الهامش اللبناني لـ”الشيعية السياسية”. فتكاد تفقد الحركة مبرّر وجودها، ولذلك تمرّ بأزمة وجودية حقيقية.
على هذا النحو كان العام 2021 عاماً مفصليّاً لا بحَدَث بذاته، بل بالممارسة السياسية للكتل الطائفية، وخصوصاً الكتلتين المسيحية والشيعية اللتين
2- الطائفة السنّيّة: لا مبالغة في القول إنّ العام 2021 هو أسوأ الأعوام على الطائفة السنّيّة ومؤسّستها السياسيّة. فانتخاب عون كان هزيمة موصوفة لها. لكنّ الرئيس سعد الحريري حاول الالتفاف على هذه الحقيقة المرّة إلى أن وقعت الأزمة في خريف 2019 فاستقال. ثمّ بدأ العهد والحزب بضرب المؤسسة السنّيّة بتسمية حسّان دياب رئيساً للحكومة. وقد خضع هذا الأخير خضوعاً تامّاً للعهد والحزب قبل أن يستقيل إثر انفجار الرابع من آب. فبدأت مرحلة جديدة من ضرب السنّيّة السياسية بمشاركة نادي رؤساء الحكومة. فعلى مدى 13 شهراً بقيت رئاسة الحكومة فارغة لأنّ العهد والحزب أرادا منح الثقة للتشكيلة الحكومية قبل البرلمان، إذ أخضعا الرؤساء المكلّفين الثلاثة مصطفى أديب وسعد الحريري وأخيراً نجيب ميقاتي للمعادلة التالية: إمّا تشكيلة حكومية وفق إرادتنا أو لا حكومة. هكذا بقي العهد والحزب “يمرجحان” الرؤساء المكلّفين ذهاباً وإياباً على طريق قصر بعبدا حتّى استقرّا على تشكيلة نجيب ميقاتي، فقبلا بولادة الحكومة التي كانت ثمرة توافق جانبيّ وهشّ بين الفرنسيين والإيرانيين. بهذا المعنى كان العام 2021 عام هزيمة رئاسة الحكومة، ومعها هزيمة التظام السياسي اللبناني بشكل عام الذي يقوم على مبدأ توازن توزيع السلطات والصلاحيات انطلاقاً من هذه المؤسسة. وهو أمر سيجد ترجماته القصوى في العام 2022، وتحديداً في الانتخابات النيابية، في ظلّ حالة الإرباك التي يعيشها الوسط السياسي السنّيّ بالنظر إلى تأرجح الحريري بين خوض المعركة الانتخابية وبين الانكفاء أو حتّى الاعتزال! وهذا وضع مؤاتٍ جدّاً للحزب الذي سيعمل ما في وسعه لاختراق الطائفة السنّيّة اختراقاً حقيقياً من خلال خلق “سرايا مقاومة” نيابيّة وشعبية، وهو ما سيعمّق الاختلال الفاضح في موازين القوى على مستوى البلد ككلّ.
3- المسيحيون: حصل تواطؤ داخل المؤسسة المسيحية على فكرة أنّ “الرئيس القوي” سيعيد تدوير الحضور المسيحي في الحكم والنظام السياسيّ بحيث يجعله قائماً بذاته، بدلاً من أن يستمدّ وجوده من الشراكة مع المؤسسات السياسية الإسلامية. لكن لم يطُل الوقت حتّى انفضح هذا التواطؤ – الخديعة، وبدت رئاسة ميشال عون أسيرة شروط إنتاجها. فإذا كان الرئيس عون قد اُنتُخب بقوّة الحزب، فإنّ تجربة ولايته أكّدت أنّ المؤسسات الدستورية، وعلى رأسها رئاسة الجمهورية، شديدة الضعف أمام قوّة الحزب. فقد تحوّل انتخاب ميشال عون، الذي صُوِّر على أنّه إنقاذٌ لرئاسة الجمهورية ولدور المسيحيين في النظام، إلى دلالة أكيدة على ضعف رئاسة الجمهورية لا بسبب حجم صلاحيّاتها الدستورية، بل بسبب وقوعها تحت نفوذ الحزب الذي لولاه لما اُنتُخب عون.
لذلك حكمت كلّ القوى السياسية المسيحية الرئيسية الطامحة إلى رئاسة الجمهورية على نفسها بالعقم السياسي ما دامت لا تسعى إلى “تحرير” رئاسة الجمهورية، بل إلى بلوغها بأيّ ثمن، حتّى لو كانت شروط إنتاج الرئاسة المقبلة هي نفسها شروط إنتاج رئاسة عون، ولو مع بعض التغييرات العرَضية. عليه فإنّ إحجام المؤسسة المسيحية عن المطالبة باستقالة عون كان بمنزلة إعلان تهدئة سياسية مفتوحة مع الحزب بلا أيّ مقابل.
كلّ ذلك عمّق حالة الفشل السياسي في الوسط المسيحي عموماً، وفي داخل الأحزاب المسيحية التي لن يغطّي تنافسها على المقاعد النيابية فشلها على المستوى السياسي العامّ. خصوصاً أنّه لا يمكن توقّع نهوض سياسي مسيحي من دون “تحرير” رئاسة الجمهورية، كما دعا البطريرك الراعي نفسه في 5 تموز 2020.
إقرأ أيضاً: الحزب: 7 تحدّيات… و3 استحقاقات
4- الدروز: منذ وقوع الأزمة دفع وليد جنبلاط باستراتيجية “الجلوس على ضفّة النهر” إلى أقصاها. فصفّر مشاكله مع مختلف القوى، وحوّل زعامته إلى زعامة رعاية اجتماعية بالدرجة الأولى، لإدراكه أنّه في ظلّ التركيبة الاجتماعية – الاقتصادية الدرزية فإنّ تقديم الدور الرعائي للزعامة الجنبلاطية يؤدّي إلى تمتين هذه الزعامة بعد الارتجاجات التي طالتها بفعل دعم الحزب لمناوئيها داخل الطائفة، وبفعل بروز حركة احتجاجية درزية منذ 17 تشرين 2019. هكذا رسّخ جنبلاط انطباعاً بأنّ الدروز طائفة تتلقّى تبعات الانهيار، لكنّها بريئة منه بالنظر إلى محدودية حجم نفوذها في الحكم والنظام. ومن المتوقّع أن يحصد جنبلاط في العام 2022 ما زرعه في العام الماضي، لكنّ حجم محصوله غير معلوم بعد، لأنّه لا يواجه تحدّيات درزية وحسب، بل تحدّيات من قبل القوى الطائفية الأخرى، ولا سيّما من جانب الراديكاليّتين المسيحية والشيعية، في ظلّ ارتباك تيار المستقبل حليفه التقليدي في الجبل وبيروت، وتقلّص دور الرئيس برّي، “صديقه اللدود”.