هذا يوم رفيق الحريري، الذي ثبت بعد 17 من اغتياله جسدياً، استحالة إلغائه من متن صناعة السياسة في لبنان، ومن حضوره في الذاكرة العربية والدولية.
“أساس” ينشر أمس واليوم مجموعة مقالات ومقابلات في محاولة لسرد بعضٍ سيرته التي نتعلّم منها جميعاً.
بعد شهرين على انتخاب جاك شيراك رئيساً لفرنسا (1995)، وكانت ولايته الأولى، حلَلت ضيفاً على الرهبان البنديكتيين المحصّنين في دير Cîteaux الواقع في ضاحية نائية لمدينة Dijon الشهيرة بصناعة الخَردَل. هم رهبان نذروا الصمت، إضافة الى الطاعة والعفّة والفقر. يعيشون بصمت. يعملون بصمت. يأكلون بصمت. لا يتكلّمون إلا الضروريّ من الكلام وفي غرفة خاصّة. لهم لغتهم الخاصّة للتواصل بالإشارات في العمل وعلى المائدة. هناك لا تلفزيون. لا إنترنت. لا هواتف نقّالة.
بعد أيّام على وصولي كان عيد شفيع رئيس الدير. قبل الغداء وكالعادة، قرأ راهب مقطعاً من القوانين الرهبانية. وإذ بالأب الرئيس يقرع الجرس قائلاً: Deo gratias. إنّها إشارة الإذن بالكلام! هذا لا يحدث إلا نادراً وفي الأعياد الكبرى. تحرّرت ألسُن الرهبان. وبدأت تنهال الأسئلة عليّ، أنا الضيف القادم من البلد الصغير صديق فرنسا التاريخي. وكان السؤال الأول عن رفيق الحريري : “ومن أين تعرفونه؟”، سألتُ متعجّباً. فأجابني أحد الرهبان: “إنّه صديق الرئيس شيراك”. فوجئت حينها. لم أكن على علم بشبكة العلاقات الإقليمية والدولية للحريري. فقد تزامن دخوله السراي الكبير في لبنان مع دخولي الدير الصغير، حيث عشتُ عزلةً عن السياسة وأخبارها متفرّغاً للصلاة والتأمّل. شعرتُ بالفخر. رئيس وزراء بلادي صديق لرئيس دولة عظمى.
مقابل مشروع تعليم 33 ألف طالب ليشاركوا في بناء مستقبل زاهر للبنان، كان هناك مشروع بناء ميليشيا من 100 ألف مقاتل يُدخلون لبنان في مستقبل مجهول
عدتُ إلى لبنان. وعدتُ لمتابعة التطوّرات السياسية. وعلمت أنّ شيراك ليس رئيس الدولة الوحيد الصديق لرفيق الحريري، إنّما أيضاً الملك السعودي ووليّ عهده وغالبيّة أفراد العائلة الملكيّة، ورئيس ماليزيا مهاتير محمّد، والمستشار الألماني غيرهارد شرودر، والرئيس المصري حسني مبارك… والأهمّ أنّه صديق الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ ثمانينيّات القرن الماضي حتّى استشهاده. وعلمتُ أيضاً أنّ الحريري وضع صداقاته وشبكة علاقاته الكبيرة هذه في خدمة لبنان، لدعم مسيرة إعادة الإعمار التي قادها بنفسه، ولكي يعود إلى الخارطة العالمية بعد سنوات الحرب الطويلة، على الرغم من أنّه كان تحت الوصاية السورية.
لكن في مقابل مشروع الحريري الإعماريّ والانفتاحيّ على الإقليم والعالم، كان هناك مشروع يقود لبنان في الاتجاه المعاكس، نحو التبعيّة لإيران وتحويله إلى “هانوي إيرانية” (على حدّ قول وليد جنبلاط) وعزله عن المحيط العربي والمجتمع الدولي. ففي مقابل مشروع تعليم 33 ألف طالب ليشاركوا في بناء مستقبل زاهر للبنان، كان هناك مشروع بناء ميليشيا من 100 ألف مقاتل يُدخلون لبنان في مستقبل مجهول.
التطمينات… والزلزال
في بداية الألفية الثانية، عدت من جديد إلى باريس لمتابعة دراستي في الجيوسياسة. يوم 14 شباط 2005 كنت على موعد مع البروفسور جوزف مايْلا، اللبناني، لتهنئته بتعيينه رئيساً للجامعة الكاثوليكية. دخلت مكتبه حوالي الساعة الرابعة بعد الظهر (بتوقيت فرنسا). وإذ بوجهه شاحب. مرتبك. قال: “وقع زلزال في بيروت”. أجبتُهُ: “ماذا تقول؟!”. قال: “قتلوا رفيق الحريري. منذ لحظات أكّد لي الخبر باسيل يارد” (مستشار الحريري للشؤون الفرنسية).
لبنان ليس في نهاية وصاية سورية عليه. إنّه في بداية احتلال سياسي إيراني فعليّ له، وعزلة عربية ودولية، وانهيار اقتصادي ومالي غير مسبوق… والأخطر أنّ هناك مشروعاً جدّيّاً لاغتيال لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري
ارتدادات زلزال بيروت وصلت إلى باريس. اهتزّ قصر الإليزيه. طار سيّده فوراً إلى بيروت. شعر شيراك بمسؤوليّته في اغتيال صديقه. فهو كان قد طمأنه إلى أنّهم لن يجرؤوا على اغتياله على الرغم من تقاطع عدّة معلومات استخبارية أجنبية تؤكّد أنّ شيئاً ما يُعدّ ضدّ الحريري. وعاد وأكّد هذه المعلومات، نقلاً عن البريطانيين، باسل فليحان الذي استشهد معه. “عناد” الحريري على البقاء في بيروت (على حدّ قول أحد المقرّبين منه) التقى مع تطمينات صديقه شيراك. واستشهد!
كأنّه كُتب لأجيال في لبنان أن لا تُحيي عيد الحبّ. في ذاك الرابع عشر من شباط تضرّجت بيروت بالدم الأحمر. تكسّرت الورود الحمراء. تجرّع غالبيّة اللبنانيين كأس الشهادة، ومعهم كلّ العرب والعالم. كان القاتل يعلم أنّ رفيق الحريري يحبّ بلاده. فقرّر قتله في عيد الحبّ. وكان يعرف مدى عشقه لبيروت. فاغتاله في قلبها. هو عقل إلغائي.
حين وقفت تلك الراهبة، بثوبها الرهباني الأبيض، ورسمت إشارة الصليب فوق قبر الحريري في وسط بيروت، ذكرَت في صلاتِها أيضاً ابن بلدتها سمير وديع ورفيقيه سليم معَيْكي وغسان أبو الياس الذين استشهدوا قبل ستة عشر عاماً في اليوم ذاته برصاص عقل إلغائي آخر.
بعد سنة على استشهاد رفيق الحريري، التقى العقلان الإلغائيان. تبيّن فيما بعد أنّ هدف تفاهمهما ليس إلغاء المشروع السياسي والاقتصادي للحريري فحسب، إنّما إلغاء دستور الطائف، الذي لعب الحريري دوراً أساسيّاً فيه. بدأ التنفيذ بـ”اغتيال” وسط بيروت وإلغاء دوره التجاري والمالي والسياحي، في اعتصام أقاماه لسنة ونصف. تبعه أوّل تعطيل للانتخابات الرئاسية. واستُكمل بإلغائهما مفعول الأكثرية النيابية بواسطة “الثلث المعطّل” في الحكومة، وإسقاطهما حكومةَ سعد الحريري الأولى… وتعرفون باقي المسار الإلغائي من تعطيل الاستحقاقات والانقلاب على الحوارات والاتفاقات، وعلى الدستور والقوانين… حتّى وصل إلى حدّ إلغاء الكيان والدولة والدستور والنظام والاقتصاد بعد وصول هذا “الثنائي الإلغائي” إلى الحكم في العام 2016 بانتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية وتنصيب السيّد حسن نصرالله نفسه مرشداً أعلى للجمهورية.
إقرأ أيضاً: اشتقنا إلى الكبار
لا شكّ أنّ رهبان دير Cîteaux سمعوا بالزلزال الثاني الذي ضرب بيروت إثر انفجار مرفئها. فرئيسهم طار فوراً إلى بيروت. لكنّ إيمانويل ماكرون ليس جاك شيراك. ولبنان ليس في نهاية وصاية سورية عليه. إنّه في بداية احتلال سياسي إيراني فعليّ له، وعزلة عربية ودولية، وانهيار اقتصادي ومالي غير مسبوق… والأخطر أنّ هناك مشروعاً جدّيّاً لاغتيال لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية