انتهت في ليبيا مرحلة التوافق التي أدّت إلى ولادة حكومة وحدة وطنية برئاسة عبد الحميد دبيبة، بعدما قادت الضغوط الخارجية التي هندستها الدبلوماسية الأميركية ستيفاني وليامز، إلى جمع الفرقاء تحت اسم “ملتقى الحوار السياسي الليبي” في جنيف.
تولّت حينها وليامز قيادة دفّة البعثة الأممية في ليبيا بالوكالة بعد استقالة المبعوث الدولي غسان سلامة. ثم انتهى الملتقى في شباط من العام الماضي إلى اختيار دبيبة ليقود حكومة أبرز أهدافها إجراء انتخابات رئاسية في 24 كانون الأول الماضي، لكنّ هذه الانتخابات لم ترَ النور.
ركاكة التوافقات الخارجية أدّت إلى وأد توافقات جنيف. فاستقال مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا يان كوفيتش في تشرين الثاني وعادت ستيفاني وليامز سريعاً لتطلّ بقوّة على الشأن الليبي بعد تعيينها في كانون الأول مستشارة للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش للشؤون الليبية. أطلّت واشنطن بوليامز، فيما موسكو تضع فيتو عليها في مجلس الأمن وتطالب بتعيين مبعوث جديد ينهي خدماتها.
بات التنافس على الشرعية يجري بين حكومتين يفترض أن يكون مركزهما طرابلس. واحدة بقيادة دبيبة المدافع عن شرعيات “الملتقى”، وأخرى قيد التشكّل بقيادة فتحي باشاغا
عادت ليبيا من جديد إلى عهد الحكومتين. لكنّ مفارقة عجيبة حدثت وتستحقّ التأمّل. لم يعد الخلاف بين حكومة مركزها طرابلس وأخرى مركزها بنغازي كما كان الحال قبل توافقات جنيف. بل بات التنافس على الشرعية يجري بين حكومتين يفترض أن يكون مركزهما طرابلس. واحدة بقيادة دبيبة المدافع عن شرعيات “الملتقى”، وأخرى قيد التشكّل بقيادة فتحي باشاغا، تتسلّح بقرار البرلمان (في طبرق) تعيينه في 10 شباط الجاري.
المفارقة الأكثر إثارة للانتباه هي أنّ خصوم الأمس بين شرق وغرب انقلبوا على تلك الخصومة واهتدوا إلى ما يشبه صفقة أتت بفتحي باشاغا، الذي كان وزير الداخلية في حكومة فايز السراج. وباشاغا من صقور معارضة “تحالف برلمان طبرق”، برئاسة عقيلة صالح مع قائد “الجيش الوطني الليبي” الجنرال خليفة حفتر. وما أنضجه برلمان ليبيا قبل أيام يتمّم تسويات جرى العمل عليها بدأب خلال الأشهر الماضية في حركة باشاغا صوب الخصوم في بنغازي، وبجولة قام بها على الدول ذات التأثير مثل مصر وفرنسا وتركيا وروسيا.
مرحلة انتقالية
ارتأى خصوم الأمس إبعاد دبيبة الذي يرونه طارئاً على اللعبة السياسية الليبية وأتت به على غفلة مخرجات “الملتقى” الذي صاحبه لبس وشكوك في دفع رشى. ولئن دخل باشاغا طرابلس مستقوياً بنفوذه داخل طرابلس ومصراتة التي سبق أن استعرض بها قواه في عزّ خلافه مع السراج، فإنّ أرتالاً عسكرية جالت في طرابلس تذكّر بأن دبيبة بإمكانه الاستقواء بتيار يدعمه في السياسة والميدان، والاستظلال بموقف وليامز مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة وستيفان دوجاريك المتحدّث باسمه اللذين ما زالا يعترفان به رئيساً لحكومة البلاد.
لم تستطع حكومة دبيبة تأمين الظروف السياسية والأمنيّة الواجب توافرها لإجراء الانتخابات. والأرجح أنّ الرعاية الدولية لم تكن كافية في جدّيّتها، وبالتالي لا يتحمّل دبيبة وحكومته وحدهما وزر سقوط خيار الصناديق. وعليه فإنّ دبيبة يلعب على وتر عدم تسليم السلطة إلا إلى حكومة منتخبة بما لا يضع نهاية لسلطاته إلا عبر الانتخابات. فيما يرى أصحاب الصفقة الجديدة أنّ مهامّ دبيبة قد انتهت، وأنّ على حكومة جديدة أن تقود البلاد خلال مرحلة انتقالية من 14 شهراً لإجراء هذه الانتخابات.
ما يلفت، بالمقارنة مع حال سوريا، أنّ ليبيا أظهرت أهميّة جيوستراتيجية واستدرجت تدخّلات دولية (أوروبية أميركية تركية روسية عربية وإقليمية) وعقد مؤتمرات دولية في سعي إلى فرض خارطة طريق للحلّ السياسي والاستقرار. موقع البلد الإفريقي المطلّ على البحر المتوسط، وثرواته في سوق الطاقة، جعلاه ملفّاً يثير اهتمام العواصم لوقف الصراع، فيما يبدو أنّ هذه العواصم ليست مستعجلة على ذلك في سوريا.
على هذا قد يكون المجتمع الدولي أكثر استعداداً في ليبيا للقبول بتوافقات داخلية كتلك التي أنتجها البرلمان الليبي مؤخراً. فلتفاهمات المتقاتلين منطق وصدقيّة في إنتاج السلم والاستقرار بدل التورّط في جدل بيزنطي حول الشرعيّات، خصوصاً إذا ما كانت تعيبها جميعاً الشوائب والشكوك، وخاضعة للتلفيقات السياسية التي لم تكن يوماً متأسّسة على شرعية الصناديق. والواضح في اجتماع وليامز، الأحد، مع دبيبة، وخصوصاً مع باشاغا، ما يشي بأعراض التحوّل الأممي باتّجاه ما قرّره البرلمان الليبي.
ولن يكون مفاجئاً تعايش الرعاية الخارجية مع التحوّلات الداخلية بحيث قد تشرف الأمم المتحدة على حياكة مخارج للاعتراف بحكومة باشاغا واجتراح حلّ ينهي معاندة دبيبة. وحري هنا مراقبة موقف رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي خالد المشري القريب من التيارات الإسلامية. أبدى الرجل استعداده للتعاون مع البرلمان بشأن تعيين رئيس الحكومة الجديد فتحي باشاغا، مشدّداً على أنّ مجلس النواب هو المعنيّ بذلك دستورياً وليس المجلس الرئاسي، مفرّغاً بذلك حجج دبيبة وقراءاته القانونية.
إقرأ أيضاً: إلى أوروبا: جنوب ليبيا أخطر من أوكرانيا
وعلى الرغم من أنّ عواصم الخارج ما زالت متأنّية في الكشف عن حساباتها، إلا أنّ صفقة باشاغا، في هويّة أقطابها، قد تنهل من تقاطع محتمل بين تركيا ومصر لا تعارضه أو لا تملك معاندته عواصم فاعلة أخرى، خصوصاً بعد ما رصد من انفتاح تركي مفاجئ مؤخراً على شرق ليبيا. وإذا ما صحّت احتمالات هذا التقاطع فالأمر قد يحتاج إلى مزيد من الجهد لصناعة توافق دولي قد تؤخّر إنتاجه مفاعيل الأزمة الدولية في أوكرانيا. وفي الرأي أيضاً أنّ الانشغال بتلك الأزمة قد يوفّر فرصة استثنائية لتمرير توافقات داخلية نادرة.
*كاتب لبناني مقيم في لندن