إذا حدث هذا الغزو فإنّه سيكون على نطاق لم نشهده منذ الحرب العالمية الثانية. هكذا وصف قائد الجيش البريطاني الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا.
قد لا يتوقّف الأمر عند أوكرانيا، وربّما يمتدّ إلى بولندا لاحقاً، وربّما تكون دول البلطيق هي الأخرى جبهة للمعارك، وربّما.. وربّما.
إنّ نموذج الحرب العالمية الأولى قد يكون مناسباً للوعظ والإرشاد. فلقد بدأ الأمر بحادث اغتيال لوليّ عهد الإمبراطورية النمساوية المجرية، وكان القاتل الصربي يعتقد، ويعتقد مَن وراءه، أنّه حادث اغتيال، وكفى. ولكنّ ذلك الحادث كان سبباً في اندلاع أكبر حرب في تاريخ العالم حتى ذلك الوقت.
قد لا يتوقّف الأمر عند أوكرانيا، وربّما يمتدّ إلى بولندا لاحقاً، وربّما تكون دول البلطيق هي الأخرى جبهة للمعارك
قد تبدو الأمور في أوكرانيا موضع تصوّرات وسيناريوهات محسوبة جيّداً في عواصم الشرق والغرب، لكنّ الأمور كانت محسوبة أيضاً حين جرى اغتيال الأرشيدوق النمساوي، ثمّ أفلتت الأمور، وبدأت الحرب العظمى.
الحرب الأوكرانيّة الثالثة
إذا قامت روسيا بغزو أوكرانيا، فلن تكون تلك هي الحرب الأولى، فقد سبقت حربان بين البلدين قبل ثماني سنوات: في عام 2014 كانت الحرب الأولى، التي لم تشهد اشتباكات تُذكر، لكنّها انتهت بضمّ القرم إلى روسيا.
وبعد قليل، وفي العام نفسه 2014، وقعت الحرب الثانية، التي يمكن تسميتها “حرب دونباس”، حيث خاض الأوكرانيون من القوميّة الروسية حرباً انفصالية في منطقة دونباس المجاورة للقرم، وأعلنوا قيام “جمهورية دونباس” من طرف واحد.
قُتل في حرب دونباس أكثر من 14 ألف شخص، ونتج عنها قرابة مليون ونصف مليون نازح. وإذا ما وقع الغزو الروسي لشرق أوكرانيا في عام 2022، فإنّ ذلك سيشكّل الحرب الثالثة. وإذا كانت خسائر حرب دونباس فادحةً على هذا النحو، فإنّ خسائر حرب 2022 ستكون أضعاف ما سبق.
روسيا واحدة وأكثر من غرب
ثمّة صوت واحد يمثّل روسيا، لكنّ الغرب لم يعد يتحدّث بصوت واحد، فألمانيا وفرنسا تكتفيان بدور الوساطة، والمجر تزيد من مساحة التعاون مع روسيا، وبريطانيا تهدّد بالدعم العسكري لأوكرانيا، وبولندا التي تلقّت تعزيزات عسكرية من واشنطن، قامت بإرسال معدّات عسكرية لمواجهة روسيا، وأمّا الولايات المتحدة فإنّها لا تتحدّث إلّا عن سلاح العقوبات.
الناتو ليس على قلب أو رأي واحد، ولولا حجّة الحلف في أنّ أوكرانيا ليست عضواً في الناتو، لكان الموقف صعباً جدّاً، ذلك أنّ الحلف لم يجد بدّاً من أن يعلن أنّه لن يرسل قوّاته إلى أوكرانيا.
تهاجم صحافة لندن كلّاً من برلين وباريس بحجّة أنّهما ليستا فاعلتيْن في الأزمة، فيما بريطانيا تتحرّك في كلّ مكان، وتشارك في قيادة المشهد.
تقول بريطانيا إنّ ألمانيا تواجه انقسامات سياسية في ائتلافها الحاكم وفي نخبتها السياسية، لكنّ رئيس الوزراء البريطاني نفسه قيد التحقيق، وينتظر البرلمان تقرير الشرطة عن احتمالات إقامته حفلات في وقت الحظر، في ذروة الجائحة.
تايوان تخطف الأضواء من أوكرانيا
فيما تشتعل أزمة أوكرانيا، ويستدعي الجيش 100 ألف جندي للعودة إلى صفوفه استعداداً للحرب، فإنّ الوضع بشأن أزمة تايوان لم يشهد هدوءاً.
استقبلت الولايات المتحدة مسؤولين تايوانيّين كباراً، وهدّدت الصين محذّرةً من أنّ استمرار المساعدة الأميركية لاستقلال تايوان عن الصين هو تجاوز للخطوط الحمراء ولعب بالنار.
تتحدّث صحيفة “غلوبال تايمز” الصينية التي تعبِّر عن الرؤية الرسمية، عن احتمالات الحرب بين الصين وأميركا، فيما لو أعلنت تايوان الاستقلال. وحين أراد وزير الخارجية الأميركي في محادثاته الهاتفية مع نظيره الصيني التركيز على إمكانية مساعدة الصين في أزمة أوكرانيا، راحت الصين تؤكّد أنّه لا يمكن تجاوز أزمة تايوان استناداً إلى تصاعد أزمة أوكرانيا.
هكذا في وقتٍ واحدٍ، تخوض الولايات المتحدة تحدّيَيْن استراتيجيّيْن مع أكبر قوتين منافستين في العالم: الأوّل مع روسيا في أوكرانيا، والثاني مع الصين في تايوان.
الحرب بالإيحاء
وسط تلك التداعيات التي لا تنقطع، يجب التوقّف طويلاً أمام نموذج جديد في حروب اليوم: إنّه نموذج “الهزيمة بلا حرب”.
إذْ يكفي أن تحشد الحشود على الحدود، وتدقّ طبول الحرب، وتوحي باستمرار بأنّ الغزو وشيك جدّاً، فإذا بالدولة المستهدَفة تواجه الهزيمة، على الرغم من عدم وقوع الحرب.
لقد خرج المستثمرون من أوكرانيا، وتدهورت أسواق المال في البلاد، وخسرت كييف من احتياطي النقد الأجنبي في الشهر الأول من عام 2022 أكثر من مليار ونصف مليار دولار، وهو ما يمثّل نسبة مهمّة من إجمالي الاحتياطي في البلاد. قد لا تجد أوكرانيا الموارد المالية الكافية لشراء الطاقة، وربّما تعجز عن سداد التزاماتها، وقد تصبح بعد قليل على شفا الإفلاس.
لقد انهزمت أوكرانيا، قبل أن تنطلق المدافع، وربّما هنا يمكن إدراك حجم المرارة التي صاحبتْ كلام الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي حين قال إنّ الغرب كان مبالِغاً في ردّة فعله على الأزمة، وإنّ قادة الغرب، الذين قالوا إنّ الحرب ستبدأ غداً، قد أثاروا الذعر في الداخل الأوكراني، لافتاً إلى أنّ “زعزعة الاستقرار هو أكبر تهديد لأوكرانيا.. كم سيكلّف ذلك دولتنا؟”.
إنّ ذلك النموذج من إضعاف الدول بـ”الإيحاء”، وتدمير الاقتصاد بالتصريحات، وتحطيم أمن واستقرار المجتمع، وتدمير الجبهة الداخلية، بعد عقد حفنة من المؤتمرات الصحافية، والاتصالات الهاتفية، هو أخطر ما في أزمة أوكرانيا.
إقرأ أيضاً: أوكرانيا: السياسة باتت خطراً على العالم
كلُّ ما أخشاه أن يصبح ذلك “النموذج السهل” في “النصر بلا حرب” عنواناً للموجة الآتية من الحروب.
تقوم السياسة على الاقتصاد، ويقوم الاقتصاد على الاستقرار، ويقوم الاستقرار على الإحساس بالأمن. واستهداف هذا الإحساس وحده يكون بداية العدّ التنازلي لكلّ شيء.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور..
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
عضو مجلس جامعة طنطا، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.