انتخابات “اليوم” تأسيسية

مدة القراءة 5 د

يتساءل اللبنانيون: ما الذي قد يتغير في الانتخابات المقبلة؟ هل تعود الوجوه نفسها؟ لماذا انتفضنا في 17 تشرين إن لم يكن سيتغير شيئا بعد مرور قرابة 3 أعوام على “ثورتنا”؟ كلها أسئلة مشروعة قبيل انتخابات 15 أيار. الجواب عنها ليس محسوماً، بل يحتاج قراءة متأنية لواقع الحال اليوم ولتشخيص “المرض” الذي ينخر في البلاد قبل مداواته.

ينقسم لبنان عامودياً بين مفهومين متضادّين: الدولة والدويلة. في الأولى، يتعامل الأفرقاء مع الانتخابات كوجه من أوجه الديمقراطية. يتنافسون ويزايدون بـ”نظافة كفهم” حينا وبمشاريعهم وقدرتهم على التغيير أحيانا وكأنّ الدولة مكتملة العناصر.

تأتي هذه الانتخابات في ظرف حساس يعرفه حزب الله تمام المعرفة. لو عاد الأمر له لما خاض المعركة الانتخابية اليوم. بل لكان عاود حكمه “في الظل” عبر حلفائه “الفاسدين” وبعض خصومه من “المرتشين”

وفي المقلب الآخر، دويلة لا تُجري انتخابات ولا نظام ديمقراطي فيها بل نظام الحزب الواحد في “مسرحية انتخابية شكلية” تحاول التكامل مع جيرانها في الدولة.

لا يحتاج حزب الله أغلبية نيابية ليحكم لبنان. ولا يحتاج انتخابات ليرسم صورة الحكومة المقبلة. فمنذ 2005 عاش لبنان فراغات في السلطة وانتهاكَ مهلٍ دستورية أكثر من أي دولة في العالم. إمّا “الفراغ” أو رئيس يفصله حزب الله على مقاس معاييره ومصالحه، إما “حكومة تصريف أعمال” أو رئيس حكومة وتشكيلة وزارية على مقاس الحزب الحاكم. ففي 2005 و2009، لم يمتلك الحزب أغلبية نيابية ورغم ذلك قبض على القرار في لبنان. وبسلاحه غير الشرعي ضرب أهم مفاهيم السيادة المتمثلة بـ”احتكار الدولة للقوة المسلحة وحيدة من دون أي شريك كان”، فاستخدم السلاح حينا ضد اللبنانيين أو لوّح به أحيانا لينسف مفهوم الديمقراطية وحق الشعب بتقرير مصيره.

إذن ما أهمية الانتخابات إن كان الحاكم الأوحد مسلّح و”غير ديمقراطي”؟

منذ 2005 عاش لبنان فراغات في السلطة وانتهاكَ مهلٍ دستورية أكثر من أي دولة في العالم. إمّا “الفراغ” أو رئيس يفصله حزب الله على مقاس معاييره ومصالحه

تجري هذه الانتخابات اليوم في ظرف حساس يعرفه حزب الله تمام المعرفة. لو عاد الأمر له لما خاض المعركة الانتخابية اليوم. بل لكان عاود حكمه “في الظل” عبر حلفائه “الفاسدين” وبعض خصومه من “المرتشين”. 4 سنوات مقبلة صعبة ومفصلية في تاريخ لبنان الحديث. يطيب لحزب الله في هذه التحديات الكبيرة أن يكون خارج الصورة. فلا حلول يمتلكها للأزمات المتراكمة التي تسبب بها وسيتحمل مسؤوليتها كحاكم أوحد للبنان بحصوله على الأكثرية النيابية (وفق التقديرات). فحزب الله “الاستراتيجي” يرفض دفن نفسه في الأربع سنوات الآتية وتحويل غضب اللبنانيين باتجاهه بعدما نجح بحصر غضبهم في “الطبقة الفاسدة”. ولكن، وكما الظرف حساس بالنسبة له، فهو كذلك بالنسبة لإيران ونظامها. الوضع الدولي الدقيق وضع الحزب في موقع لا يُحسد عليه. إما أن يموت سياسيا في الداخل اللبناني بالسنوات المقبلة، أو تخسر إيران ورقة تفاوضية مهمة اليوم في تجاذباتها مع المجتمع الدولي. فهي تمتلك “مفتاح بيروت” السياسي حاليا وتتاجر به كورقة تفاوضية، ولن تتخلى عنها في هذه الظروف. في الموازاة، يعلم حزب الله أن الحُكم اليوم انتحار  بالنسبة له. لكن، طبعا، قرار الحزب ليس بيده، وإيران لن تبدّي “صورة” حزب الله واستثماره لمستقبله داخل لبنان على مصالحها الدولية. لا تمتلك طهران رفاهية الوقت لتحسب خطواتها للسنوات المقبلة، فخياراتها محدودة: ورقة لبنان هي حاجة إيرانية اليوم لو كلفها ذلك حزب الله على المدى البعيد.

وهنا أهمية هذه الانتخابات التي لم يكن يتمنى حزب الله أن تضعه في فوهة المدفع. فالتصويت اليوم أساسي فيما الانقسام بات عامودياً. إما التصويت للبنان الحر والمتحرر من الاحتلال الإيراني والسيّد والمستقل حيث يُعمل على بناء دولة تحاسب الفاسدين وتقطع الطريق على فسادهم، وإمّا التصويت لحزب الله ودويلته التي أفسدت أحيانا وحمت الفاسدين لعقود. هذا ما سيكون عليه البرلمان المقبل. انقسام بين حزب الله والسياديين. مهما اختلف الأفرقاء السياسيين والحزبيين والمدنيين المعارضين لإيران فإنّ صوتهم داخل المجلس وللمرة الأولى سيقول “لا للاحتلال الإيراني”. قد لا يتمكّن هذا الاختلاف بين السياديين على التفاصيل أن يلتئم لكنّ المؤكد أن صوتهم السيادي الموحّد سيضع أسس المرحلة المقبلة. هذه الانتخابات تأسيسية لمرحلة “سيادية” مقبلة يقول فيها اللبنانيون عبر ممثليهم “لا لحزب الله الإيراني، ولا لسلاحه، ولا لاقتصاده الأسود، ولا لانتزاع لبنان من حاضنته العربية، ولا للدويلة ولا للطبقة الفاسدة الحليفة أو للخصوم الشكليين المرتشين من حزب الله”. هذا المتغير هو عنوان الانتخابات المقبلة مهما كانت أعداد المقاعد التي يمكن تحصيلها. وكما براعم ربيع معركة خروج الاحتلال السوري من لبنان الناجزة في العام 2005 قد بدأت بالتبلور منذ العام 2000 بعد الانسحاب الاسرائيلي وبيان بكركي الجامع، فهل تؤسس هذه الانتخابات على مدى السنوات القليلة المقبلة لـ”جبهة سيادية ضد الاحتلال الإيراني”؟

إقرأ أيضاً: تيمور يفتتح زمنه… بفكّ الطوق عن المختارة

حبذا لو يكون الجواب “نعم” من الأفرقاء المتنافسين ديمقراطيا بين محازبين ومستقلين ومدنيين ويجمعهم مشروع الدولة على حساب الدويلة. عساهم يتذكرون أن التنافس الديمقراطي الصحي سيأتي وقته لدى استرداد لبنان ودولته، أو قد يصبح ماضيا بخلاف ذلك. وحتى ذلك الحين، لا خلاص لشعب لبنان الإ بالاتحاد حول جبهة سيادية تنادي بانهاء النفوذ (الاحتلال) الإيراني ومنع طهران من استغلال حجم نفوذها لتسيير شؤون البلد أو وضعه على صفيح حام في مشاريعها الإقليمية. فقد أضرّت بشعب لبنان ورغبته بالعيش بسلام وأمان. كما قطعت إيران تطلع اللبنانيين نحو الاستقرار والحياد وتحسين ظروفهم عبر تحالف حزب الله مع الطبقة الفاسدة: بتغطية الأخيرة لسلاحه مقابل سكوت الحزب عن الفساد حينا ومشاركته الفعلية أحيانا به لمكاسبه الضرورية لقوته ولنفوذه ولزبائنيته الانتخابية .

*كاتب لبناني مقيم في دبي.

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…