انطلاقاً من مقالة الدكتور رضوان السيد والسؤال الذي طرحه حول الحزّورة الدائمة بين إيران وأميركا، يمكن استكمال طرح الأسئلة والمفارقات حول المواقيت، الظروف، التنسيق بين أميركا وحلفائها أيضاً، ولا سيّما المملكة العربية السعودية. إذ غالباً ما تجري الولايات المتحدة الأميركية سريعاً واستباقياً باتجاه إيران سلماً أو حرباً. فالجنوح الأميركي للسلم مع إيران خيار يتقدّم على غيره من الخيارات ويبقى سباقاً. أمّا في حالات التوتّر والحرب فإنّ الإخطارات الأميركية ووضع الإيرانيين في الأجواء تكون أيضاً استباقية وسبّاقة، على غرار الضربات الأخيرة التي وجّهتها أميركا لمواقع فارغة لحلفاء إيران وسط تجنّب توجيه ضربات مباشرة. فقد أبلغت واشنطن طهران بالضربات مسبقاً وأعطتها مجالاً لإفراغ المخازن والمواقع وإخراج الضبّاط والمقاتلين.
أخطاء أميركيّة بالجملة
في المقابل، لطالما كانت هناك أخطاء أميركية في المواقيت المتّصلة باستحقاقات تتعلّق بالسعودية. وغالباً ما كان التضارب بالتوقيت عن خطأ أو عن تعمّد، فتعود الولايات المتحدة الأميركية متأخّرة إلى ما كانت قد أحجمت عنه. وعلى ذلك دلائل عديدة بعضها حصل أخيراً وبعضها الآخر يحتاج إلى العودة التذكيرية به، وهو يرتبط بسوء التقدير بين الأميركيين والسعوديين، إذ كلّما كانت تنوي السعودية القيام بخطّة معيّنة تكون أميركا رافضة لها، وعندما تصبح أميركا هي التي تريد تكون السعودية قد غيّرت حساباتها:
– أوّلاً، حاجة الولايات المتحدة إلى العودة إلى الشرق الأوسط أخيراً في إطار مواجهة المشروع الصيني، بعدما كانت انسحبت من هذه المنطقة. تحرّكت واشنطن بعد بروز رؤية استراتيجية وسياسة صينية لمنطقة الشرق الأوسط ظهرت بعد إنجاز بكين اتفاق التقارب بين إيران والسعودية.
لطالما كانت هناك أخطاء أميركية في المواقيت المتّصلة باستحقاقات تتعلّق بالسعودية. وغالباً ما كان التضارب بالتوقيت عن خطأ أو عن تعمّد
– ثانياً، اكتشاف الأميركيين، وخصوصاً إدارة جو بايدن، خطأهم في التراجع عن تصنيف الحوثيين جماعة إرهابية، فعاد الرئيس الأميركي ووصفهم بالإرهابيين.
– ثالثاً، حاجة الولايات المتحدة الأميركية إلى العمل عسكرياً ضدّ الحوثيين الذين يعيقون الملاحة البحريّة والتجارة العالمية، بعدما كانت أميركا قد منعت السعودية من تحقيق تقدّم في معركة الحديدة التي تستهدفها الطائرات الأميركية والبريطانية.
– رابعاً، طرح الأميركيين فكرة تحالف “حارس الازدهار” والإصرار على إدخال دول الخليج فيه بعد تقارب هذه الدول مع إيران وبعد المساعي لحلّ أزمة اليمن، فما الدعوة إلى المشاركة في هذا التحالف إلا لضرب هذا المسار الذي يهدف إلى ضرب الاستقرار، بينما كان بإمكان أميركا أن تفعّل مثلاً عمل “تحالف حماية الملاحة في البحر الأحمر والمحيط الهندي” المشكّل في عام 2002.
– خامساً، تعود المشكلة إلى حرب الخليج الثانية واجتياح صدّام حسين للكويت. في تلك الفترة أرادت السعودية ودول الخليج الأخرى الإطاحة بصدام لكنّ أميركا رفضت وأصرّت على الحصار وانتهزت لحظة ما بعد أحداث 11 أيلول لاجتياح العراق وأغرقته في حروب ودم ودمار فانهارت المؤسّسات وتعزّز التوغّل الإيراني.
– سادساً، بعد إطلاق السعودية المبادرة العربية للسلام في بيروت عام 2002 لم تواكبها الولايات المتحدة الأميركية، ولم تقدم على سياسة تعزيز هذه المبادرة وهذا الخيار، وتجد نفسها حالياً بعد الحرب على غزة مضطرّة إلى العودة إلى رفع شعار حلّ الدولتين. وبالتالي تأتي أميركا متأخّرة حوالى 22 سنة عن الطرح السعودي، وهي تسعى إلى التطبيع بين السعودية وإسرائيل مقابل الاعتراف بحقّ الدولتين.
– سابعاً، مثل هذه التعاكسات أو التضاربات حصلت في سوريا مثلاً بعد اندفاع أميركي صوريّ أو معنوي نحو الثورة السورية والإطاحة ببشار الأسد، لكن عاد الأميركيون وتراجعوا من أجل صفقة الكيمياوي، وهم من عمل على تثبيت الأسد في مكانه وتعزيز النفوذ الإيراني انطلاقاً من سياسة أوباما عدم إفساد الاتفاق النووي مع إيران. إثر هذه السياسة عادت السعودية وفتحت العلاقات مع دمشق، وهو ما أثار استياء الأميركيين.
لا يمكن إغفال أنّ السعودية تتحضّر لعرض خطة متكاملة خاصّة بالوضع الفلسطيني وبحرب غزة، لكنّها تنتظر أن تتبلور الخطة في ضوء كلّ المفاوضات والمساعي الدولية المبذولة
خطّة سعوديّة لوقف الحرب
هناك مجالات كثيرة لأمثلة أكثر من هذه المفارقات، لكن يبقى الأهمّ الإشارة إلى الإصرار الأميركي على التعاون مع السعودية حول ترتيبات الوضع في المنطقة، خصوصاً على وقع حرب غزة. فوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الذي يجري زيارته الخامسة للشرق الأوسط قد افتتحها بلقاء وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان. وهذا دليل على أنّ واشنطن كما غيرها بحاجة ماسّة إلى الدور السعودي في إعادة صياغة النظام الإقليمي الجديد والبحث عن حلول للأزمات المتفجّرة.
في هذا الإطار لا يمكن إغفال أنّ السعودية تتحضّر لعرض خطة متكاملة خاصّة بالوضع الفلسطيني وبحرب غزة، لكنّها تنتظر أن تتبلور الخطة في ضوء كلّ المفاوضات والمساعي الدولية المبذولة. كما أنّها ستعمل على تجميع كلّ الاقتراحات التي يتمّ بحثها على طريق الهدنة الإنسانية لتقديمها بقالب سياسي واسع يتمّ طرحه كحلّ متكامل للوضع في الشرق الأوسط ويتعلّق بالقضية الفلسطينية، وهذه كلّها كانت عناوين أساسية خلال زيارات أنتوني بلينكن وبريت ماكغورك للسعودية واللقاءات التي عُقدت مع المسؤولين السعوديين. وبحسب المعلومات فإنّ ملامح الخطّة السعودية تنصّ على ضرورة إعادة تشكيل القيادة الفلسطينية وتحديثها، بالإضافة إلى إعادة الأمن لقطاع غزة وخروج الجيش الإسرائيلي مقابل وضع أسس للحلّ السياسي وإقامة الدولة الفلسطينية، لا سيما أنّ السعودية تمتلك إحدى أهمّ الأوراق، وهي الحاجة الأميركية إلى اتفاق بين السعودية وإسرائيل، وهي ورقة لن تتخلّى عنها الرياض بسهولة بدون توفير ظروف مؤاتية سياسياً للفلسطينيين وفي المنطقة ككلّ.
في إطار الرؤية السياسية السعودية للوضع في المنطقة، ولسياسة الولايات المتحدة الأميركية تجاه إيران، تتكوّن خلاصة مفادها أنّ واشنطن لا تريد الدخول في صدام مع إيران، وتسعى دوماً إلى البحث عن تقاطعات أو مصالح مشتركة، والدليل هو تبرئة أميركا لإيران من أيّ اتّهام له صلة بالتصعيد الذي يقوم به حلفاؤها. على هذا الأساس تنتهج السعودية سياسة التوازن في العلاقات، سواء مع أميركا أو مع الصين وروسيا، وما بينهما الحفاظ على العلاقة الجيّدة بإيران. على الرغم من إيحاءات التصعيد الأميركية ضدّ إيران بعد مقتل 3 جنود أميركيين في الأردن، فإنّ المفاوضات كانت قائمة بين الطرفين لتجنّب التصعيد إثر الردّ الأميركي، وهذا ما قرأته السعودية بعناية.
إقرأ أيضاً: الحزّورة الدائمة: ماذا بين أميركا وإيران؟
عليه فإنّ السعودية تجد أمامها تبنّي خيار الليبراليين في الدول العربية كما حصل في الستّينيات، وذلك في مواجهة عبد الناصر والقذّافي والأنظمة العسكرية ونظام البعث، وكان ذلك قائماً على مواجهة الشيوعية أيضاً. أنتج ذلك سياسة سعودية تتضمّن احتواءً للمدّ الشيوعي والقومي، وهذا ما تعيد السعودية تكوينه حالياً بتقديم رؤية جديدة قائمة على مسألة الاستقرار وتعزيز الاقتصاد والازدهار المرتبط بتنويع العلاقات السياسية وترتيبها مع الخصوم، مع تصوّر حول حياة المجتمع التي يتمّ تقديمها داخل المجتمع السعودي، وبالتالي تقدِّم للعرب نموذجاً لحياة الفرد لتجنيبه الذهاب إلى الحرب أو أن يكون مشروع شهيد، وهذا ما تركّز السعودية على تقديمه في مواجهة ما تقدّمه إيران من مشاريع شهداء في كلّ الدول العربية.