طنجة: التراث يمشي على قدميه..

مدة القراءة 6 د

 

“هل تقوى على السفر إلى طنجة ليومين؟”، قال لي الشاعر نوري جراح. قلت له “بل لساعتين”. أمّا أن يكون فندق المنزه هو محلّ الإقامة ففي ذلك ما يشرح القلب. لقد سبق لي أن أقمت في ذلك الفندق عام 2010 وأعرف أنّني أتدحرج منه إلى ساحة السوق الداخل، ومنها أهبط إلى الميناء. هناك تقع مطاعم السمك الشعبية. أعرف طريقي جيداً. ولكثرة ما زرت تلك المدينة التي تجمع سواحلها بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي صرت أتجوّل فيها كمَن يتجوّل في بيته. أعرف سلالمها وأزقّتها الضيّقة ومقاهيها وأسواقها ولي صديق فيها، كاتب ومترجم مغربي هو عبد العزيز جدير الذي تعرّفت عليه عام 2007 في الكويت وصار بالنسبة لي سبباً لزيارتها بين حين وآخر. جدير هو ابن المدينة، غير أنّه في كلّ لقاءاتنا لم يكن بالنسبة لي معلّم جغرافيا بقدر ما كان شارحاً لتاريخ المدينة الأدبي، وبالأخصّ على مستوى المقيمين فيها من الكتّاب الأميركيين والأوروبيين. كان الأميركي بول بولز صديقه، وهو ما أهّله لتأليف كتابين رائعين عنه. بولز هذا هو من أطلق رواية طنجة إلى العالمية، وكان الروائي المعروف محمد شكري واحداً منهم. لا يكفي القول “طنجة مدينة ساحرة” لاختصار كلّ شيء. بل إنّ السحر الذي تتميّز به عاصمة الشمال المغربي تعجز أمامه اللغة. لا لشيء إلا لأنّه حالة شعرية. فحين احتجزت الأمطار المتواصلة الرسّام الفرنسي هنري ماتيس عام 1917 في غرفته التي تحمل رقم 39 في فندق فيلا دي فرانس بطنجة قرّر أن يرسم المناظر التي يراها من خلال النافذة. رسم حوالي خمس عشرة لوحة كما أتذكّر، غير أنّ تلك الرسوم أحدثت انقلاباً في الرسم الأوروبي الحديث.

الضياع بين قارّتين
أينما تتّجه فثمّة ساحل على البحر في طنجة. أمّا أن تجلس في مقهى الحافة فتلك فرصة لكي تسافر بصريّاً بين قارّتين، إفريقيا وأوروبا. حين كنت هناك كانت السماء صافية. شمس ولا أروع منها. “تلك هي إسبانيا”. يعرف الشباب المغاربة أنّ إسبانيا ليست بعيدة، غير أنّها بالنسبة لهم أشبه بالطوف الحجري الذي لا يمكن الوصول إليه. قال لي الشابّ المغربي الذي يجلس إلى جواري” “إنّها إسبانيا”. جملة وصفيّة عاديّة، غير أنّها جاءت بلسان ذلك الشابّ محمّلة باللوعة والحزن والاشتياق. “هل أردت أن تقول شيئاً آخر؟”، لم أسأله. كان بيننا المغرب، البلد الذي عرف أنّني أعتبره بلداً جميلاً فيما كان يفكّر في الهروب منه. قلت له: “أنا هربت من وطني أيضاً”. تأمّلني بعينين دامعتين: “نحن أخوة في الشقاء إذن”. لم أحدّثه عن الصحراء التي لا يعرف عنها شيئاً. ربّما سمع عنها في الأخبار وهو ابن طنجة الجبليّة. كنت أفكّر في صحرائي وليس في صحرائه. في مكان آخر على البحر حدّثتني إكرام عبدي عن الشعر فيما كنّا نشرب الشاي الأخضر بالنعناع. قرأت لي نثراً أشبه بالشعر. وهو ما يليق بطنجة. هناك نثر كثير في طنجة، لكنّه نثرٌ يصعب عليه ألّا يكون شعراً. كانت إكرام وهي آخر وجوه عام 2023 التي التقيتها تسمح للصمت بأن يتسلّل إلى جملها المنفتحة على حياة لم تعِشها.

طنجة مدينة مقاه. على أرصفة شارعَي باستور ومحمد الخامس تتمدّد المقاهي. وما من مقهى يشبه آخر، وبالأخصّ على مستوى الزبائن

صعوداً إلى ابن بطّوطة
“بلغت بحمد الله مرادي في الدنيا وهو السياحة في الأرض، وبلغت من ذلك ما لم يبلغه غيري فيما أعلمه، وبقيت الأخرى، الرجاء قويّ في رحمة الله وتجاوزه، وبلوغ المرام من دخول الجنّة”. ذلك ما كتبه محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجيّ الملقّب بـ”ابن بطوطة” في نهاية كتاب رحلته “تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”. وهي الرحلة التي استغرقت أكثر من ربع قرن، بدأها من بلاده ليصل إلى الصين والهند وجزيرة جاوة. ولد ابن بطوطة عام 1304 بطنجة وتوفّي فيها عام 1377، وقبره هناك. وما لم يكن يتوقّعه أن يكون الذهاب إلى قبره أشبه برحلة يحتاج المرء من أجل القيام بها إلى دليل وإلا فإنّه سيضيع طريقه بين الأزقّة الضيّقة. وكان عبد العزيز جدير دليلنا ونحن نرتقي سلالم تتلوّى صعوداً وهي تضيق وتعرض، تقصر وتطول، تفرغ من السابلة وتكتظّ بهم. قلت لماهر الكيّالي: “كن حذراً فلا وجود لأرض مستوية أمامك”. مشينا في أزقّة ضيّقة لا تتّسع لمرور اثنين، فكنّا أشبه بمتسلّقي الجبال ينظر الواحد منّا إلى قدمي صاحبه ويتبعه. ولكثرة النباتات المزهرة التي تحيط بنا استولى علينا شعور حميميّ بأنّنا صرنا جزءاً من المكان، وكان الأطفال يبتسمون وهم يشيرون إلى الطريق التي تقود إلى الضريح من غير أن نسألهم. فما من شيء آخر يفعله الغريب وهو يقتحم أحياءهم. بدأنا رحلتنا من السوق الداخل لنقف بعد نصف ساعة من التسلّق في باحة خضراء ضيّقة ونحن نتأمّل البيت الصغير الذي يضمّ قبر الرحّالة الشهير.

إقرأ أيضاً: إيران معادية لفلسطين… وللعرب

كلّ شيء يقول “أنت في المغرب”
طنجة مدينة مقاه. على أرصفة شارعَي باستور ومحمد الخامس تتمدّد المقاهي. وما من مقهى يشبه آخر، وبالأخصّ على مستوى الزبائن. بعكس ما تراه في مقاهي المدينة القديمة. هناك يكون المشهد أكثر انسجاماً وتنوّعاً في الوقت نفسه حيث يزخرفه شريط ملوّن هو عبارة عن السائحات والسائحين الذين لا يفوتهم التمتّع بتقليد مغربي يبدو بالنسبة لهم فاخراً، وهو شرب الشاي الأخضر بالنعناع بكؤوس لم يعتادوا على شرب الشاي فيها. ولكنّ كثرة المقاهي لا تعني أنّك ستحصل بيسر على مكان للجلوس فيها. غالباً ما تكون مقاهي طنجة مكتظّة. غير أنّ صاحب المقهى إذا ما تذكّر وجهك فسيرحّب بك كما لو أنّك زائر يومي. ولأنّني في زياراتي السابقة قد اعتدت أن أجلس مع عبد العزيز في مقهى بعينه من بين مقاهي ساحة السوق الداخل وسط المدينة القديمة فقد كانت ابتسامة صاحب ذلك المقهى المرحّبة بمنزلة إشارة خفيّة إلى إخلاء عدد من المقاعد وجلب طاولة وأنّه سيحضر الشاي بعد لحظات. من ذلك المكان الذي هو أشبه بالشرفة الأرضية يمكنك أن ترى مقطعاً من فيلم مغربي، إذ تسمع أصواتاً وترى صوراً وتشمّ روائح وتتذوّق شاياً وتلمس زخارف، وكلّها تقول لك “أنت في المغرب”. وكما أظنّ فإنّ المغرب هو واحد من بلدان قليلة لا يزال تراثها الشعبي يمشي على قدميه في شوارعها. وعلى الرغم من أنّ “طنجة” قد تحوّلت بمعزل عن إرادة سكّانها إلى واجهة سياحية لأسباب سياسية وجغرافيّة وترفيهية وتاريخية واقتصادية فإنّها لا تزال مدينةً تأسرك ابتسامات سكّانها في الوقت الذي تحلّق فيه رائحة برتقالهم بك.

 

*كاتب عراقي

 

مواضيع ذات صلة

سيرتي كنازحة: حين اكتشفتُ أنّني أنا “الآخر”

هنا سيرة سريعة ليوميّات واحدة من أفراد أسرة “أساس”، وهي تبحث عن مسكنٍ لها، بعد النزوح والتهجير، وعن مساكن لعائلتها التي تناتشتها مناطق لبنان الكثيرة…

الياس خوري: 12 تحيّة لبنانية وعربية (1/2)

العبثيّة، ثيمة تكرّرت في روايات الياس خوري بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. عبثيّة إمّا نحن نخوضها لتحرير الأرض والثورة على الجلّاد غير آبهين بحياتنا…

فيلم سودانيّ على لائحة الأوسكار… يحطّ في طرابلس

يأتي عرض فيلم “وداعاً جوليا” للمخرج السوداني محمد كردفاني الفائز بعشرات الجوائز في العالم، في مهرجان طرابلس للأفلام المنعقد بين 19 و25 أيلول الجاري في…

السّعوديّة تفتح أبوابها لحركة ترجمة تاريخيّة

من الرياض افتتحت وزارة الثقافة السعودية “المرصد العربي للترجمة” في 3 أيلول الجاري باب التقدّم لمنح الدراسات والأبحاث في مجال الترجمة في حلقته الثالثة. وتعتبر…