لم يحدث في التاريخ أن جرى تداول بهذا الحجم والاتّساع لمبدأ أنّ الدولة الفلسطينية هي الضمان الأوّل وربّما الأخير لاستقرار المنطقة.
حتى الذين لم يفعلوا شيئاً جدّياً لتمكين الفلسطينيين من إقامتها على أرضهم، بل ودعموا الإسرائيليين في إنكارهم لمبدأ وجودها، هم الأعلى صوتاً في المناداة بها، إلى حدّ جعلها أساساً لمرحلة ما بعد الحرب.
العنوان غير المضمون
الدولة الفلسطينية مجمَع عليها كعنوان، غير أنّها كمضمون تتنازعها اختلافات جوهرية، وكيف ينبغي أن تكون ووفق الأجندات المعلَن منها والمضمر، فهي على النحو التالي: إسرائيل تريدها منزوعة السلاح، ومنزوعة السيادة، ومرتهنة في بقائها لما تسمح به وما لا تسمح، وذلك تحت عنوان أمنيّ عامّ، وسيطرة شاملة على كلّ المجالات التي تعمل بها كدولة.
الأميركيون ومن معهم، أي الغرب عموماً، يريدونها منزوعة السلاح، مع توسّع في مجالات السيادة الإدارية والكيانية بما في ذلك العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، والتمثيل الدبلوماسي مع دول العالم، ومع نظام سياسي على النمط الغربي يجعل من تطبيع العلاقات المستجدّة مع إسرائيل التزاماً شعبياً ومؤسّساتياً وإدارياً.
أمّا العرب، فموقفهم المبدئي مفاده أنّ ما يقبل به الفلسطينيون نقبل به.
بقي أن نعرف ما هي مواصفات الدولة التي يقبل بها الفلسطينيون ويعتبرونها خلاصة كفاحهم الوطني والحلّ العملي لقضيتهم المزمنة، ولنبدأ بشرط أن تكون منزوعة السلاح.
هذا الشرط يفرضه الأمر الواقع، فلا إمكانيات لدخول الدولة العتيدة الطريّة العود والحديثة الولادة في سباق تسلّح مع من يمتلكون مفاعلاً نووياً وأحدث جيش في الشرق الأوسط من حيث التسليح والتحالف، فهو امتداد للجيش الأميركي وعلى نحو ما للحلف الأطلسي.
لم يحدث في التاريخ أن جرى تداول بهذا الحجم والاتّساع لمبدأ أنّ الدولة الفلسطينية هي الضمان الأوّل وربّما الأخير لاستقرار المنطقة
الدولة الفلسطينيّة لكلّ الفلسطينيّين
غير أنّ ما يتمسّك به الفلسطينيون دون أي قدر من التنازل أو حتى التساهل، هو أن لا تكون دولتهم منزوعة السيادة على أرضها وداخل حدودها، وعلى شعبها المقيم على أرض الوطن أو في الشتات، فالدولة الفلسطينية هي للشعب الفلسطيني كلّه، وجنسيّتها وجواز سفرها حقّ لكلّ فلسطيني، ولا قيود على الحركة والإقامة، بما في ذلك الحدود والمعابر والاتصال الطبيعي بين كلّ أجزاء الدولة.
لتحقيق ذلك في غياب جيش يحمي السيادة فلا بدّ من ضمانات مقنعة بما في ذلك وجود دولي على أرضها، بقرار من مجلس الأمن ورضا الدولة الفلسطينية، التي سيكون من ضمن مسؤوليّاتها التفاوض على قضية اللاجئين وفق القرارات الدولية ذات الصلة والقانون الدولي.
الدولة ليست عنواناً أو شعاراً أو مصطلحاً أو مطلباً، بل إنّها حقيقة وواقع، وينبغي أن تتوافر لها مقوّمات الحياة والتقدّم والازدهار وحماية شعبها ومقدّراتها من أيّ خطر قريب أو بعيد يتهدّدهما. وفي الحالة الفلسطينية وبعد عقود من اللادولة واللاهويّة واللاسيادة، يتحمّل العالم مسؤولية رئيسية في تمكينها من أداء مهامّها الطبيعية، وللعالم وسائل فعّالة لعمل ذلك.
هذه المواصفات البديهية لأيّ دولة حقيقية هي ما ستكون مادّة الصراع المقبل.
إقرأ أيضاً: فلسطين بين نكبتين
لن تكون الأمور سهلة أو ميكانيكية أو تلقائية، حتى لو أجمع العالم على ولادتها، لكن بوسع العالم أن يضمن وجودها على أرضها دون أن نغفل دور الفلسطينيين الذين سيحملون جنسيّتها، فهو الدور الأساس في بنائها وتكريسها وازدهارها وتقدّمها.