هذا ما خلص إليه لقاء خاص جمع عدداً من المسؤولين والكوادر من قوى المقاومة في لبنان وفلسطين، وقدّم فيه أحد المسؤولين المعنيين في “المقاومة الإسلامية” تقويماً داخليّاً لما جرى حتى الآن من معارك على مختلف الجبهات، وأرفقه بمجموعة من الأسئلة والإشكاليات حول العلاقات بين قوى المقاومة، وأهمية تحديد المشروع السياسي المستقبلي لهذه القوى في لبنان وفلسطين.
وهنا أبرز ما جاء في تقويم هذا المسؤول:
“أعتقد أنّ عملية طوفان الأقصى والمواجهات التي أعقبتها في غزة وفي الساحات الأخرى في لبنان واليمن والعراق، إنّما هي حقبة تاريخية واستثنائية شديدة الأهمية في مسار الصراع بين المقاومة والعدوّ الإسرائيلي.
لا شكّ أنّ الكلفة البشرية من أهلنا المدنيين في غزة باهظة وموجعة، لكنّها من زاوية أخرى تعكس تطوّراً كبيراً في طبيعة الصراع وتفاقم المخاطر التي تهدّد الكيان الإسرائيلي، لذلك فإنّ هذه التضحيات لا تبذل في فراغ، إنّما هي الثمن الذي يقرّب من تحقيق الأهداف الكبرى.
الإفراط في التوحّش تعبير عن المأزق الإسرائيلي ودافع جوهري لتغيرات مهمّة في الرأي العام الدولي، وتعكس انهياراً في منظومة الأطر والإجراءات التسووية الغربية والإسرائيلية في حماية الكيان وتصفية القضية الفلسطينية وإلغاء أو إضعاف المقاومة. وفوق كلّ ذلك، هي تمثّل انكشافاً خطيراً ومدوّياً في عجز القدرات العسكرية الإسرائيلية عن حسم المعركة ميدانياً، على الرغم من الاستنزاف الأقصى لهذه القدرات “ما دون النووي”.
حول الآفاق المستقبلية قال القيادي المقاوم إنّ الخطاب الأيديولوجي يجب أن يحافظ عليه في وظيفته التعبوية المعهودة، إلا أنّ الخطاب السياسي يجب أن يتّسم بالحكمة والواقعية
العصابات تفوز إذا لم تخسر
أضاف القيادي المقاوم: “عند هذه الحقيقة بالضبط، يولد الافتراق الأميركي الإسرائيلي، بين المقاربة الأميركية البراغماتية التي اضطرّت إلى أن تنادي بحلّ الدولتين، والمقاربة الأيديولوجية الصهيونية في إسرائيل، التي تقوم على الإنكار والاندفاع نحو المجهول. لذلك، وعلى الرغم من التحدّيات التي يفرضها الدمار الشامل في غزة، والحاجة إلى إيواء قرابة مليونَي إنسان، وتوفير مقوّمات الحياة لهم، فإنّ الكيان الإسرائيلي يبدو مهزوماً، والمقاومة تبدو منتصرة، وكما يقول “كيسنجر” في تقويمه للتجربة الأميركية في فيتنام: “إنّ أحد المبادئ الأساسية لحرب العصابات هي أنّ العصابات تفوز إذا لم تخسر، والجيش التقليدي يخسر إذا لم ينتصر”.
تابع القيادي المقاوم: “من ناحية أخرى، ثمّة وجه شبه مع التجربة التي مرّت بها المقاومة في لبنان خلال حرب تموز 2006، على الرغم من الفارق في حجم الدمار والخسائر البشرية، وفي طبيعة الساحتين. فالقرار 1701 الذي شكّل التتويج السياسي للحرب، لم يكن متوازناً ولا متلائماً مع نتائج الحرب، بل إنّ هذه النتائج في حقيقة الأمر ومن الناحية الواقعية، فرضت تفسيراً آخر للقرار وضعه في سياق تطبيقي مختلف، من حيث الإجراءات ومن حيث الأبعاد القانونية، الأمر الذي أتاح للمقاومة أن تنمو وأن تتراكم قوّتها وتزداد فاعليّتها وأن يتعمّق حضورها في النطاق الجغرافي المحكوم بالقرار، على النحو الذي يتناقض مع الوظيفة الأساسية التي وُضع القرار من أجلها. ولهذا علينا أن نتوقّع أنّ المخرجات السياسية والقانونية التي سيتمّ وضعها من قبل الدول الغربية والمؤسسات الدولية والتي لن تكون منسجمة البتّة مع نتائج الحرب في حال هزيمة العدوّ وانتصار المقاومة، لن تكون من الناحية الواقعية قادرة على الحؤول دون استمرار المقاومة وتناميها وتعزيز قدراتها وفاعليّتها، أو فرض مسارات استراتيجية وحمايتها، خارج إرادة المقاومة والشعب الفلسطيني”.
أضاف القيادي أنّ “التطوّر الطبيعي في مسار المقاومة بعد عملية طوفان الأقصى ومعركة غزة، هو العمل على الانتقال من تكامل الساحات إلى وحدتها
الواقعيّة السياسيّة: “مرحلة” الصراع.. و”مراكمة” المكتسبات
حول الآفاق المستقبلية قال القيادي المقاوم إنّ “الخطاب الأيديولوجي يجب أن يحافظ عليه في وظيفته التعبوية المعهودة، إلا أنّ الخطاب السياسي يجب أن يتّسم بالحكمة والواقعية والمسؤولية والعقلانية التي تمرحل الصراع وتنوّع أدواته وتراكم المكتسبات، على النحو الذي ينتزع من أعداء المقاومة بعض أدواتهم التي يستخدمونها ضدّها. وثمّة أهمّية جليّة في ارتكاز الخطاب السياسي على منطق الحقوق الكاملة، وفي طليعتها حقّ العودة والسيادة وتقرير المصير والحرّية، وتوظيف بعض القرارات الدولية التي تهدّد فعلاً مرتكزات الكيان الإسرائيلي”.
عن العلاقة بين ساحات وجبهات المقاومة قال القيادي: “أعتقد أنّ تجربة طوفان الأقصى وما أعقبها من مواجهات في غزة وفي الساحات الأخرى، هي من الغنى والوضوح بحيث ستدفع نظرية المقاومة إلى مزيد من التعميق والتكامل، وهي أضاءت على آفاق كانت لا تزال غامضة في مستقبل الصراع. وإنّها المرّة الأولى في مسار الصراع بين المقاومة والعدوّ الإسرائيلي التي تفتح فيها جبهات متعدّدة في آن واحد، والمرّة الثانية بعد حرب تموز 2006 التي تخاض فيها حرب تدميرية واسعة وتشهد التحاماً مباشراً ميدانياً معقّداً. وأغلب الظنّ أنّ ما يجري راهناً على مستوى الجبهات المتعدّدة المفتوحة في مواجهة العدوان الإسرائيلي، يندرج في إطار التكامل بين الساحات، وهو حتماً تجاوز مرحلة التنسيق، لكنّه ربّما لم يبلغ بعد وحدة الساحات”.
التفوّق التكنولوجيّ والتسليحيّ بات محدود التأثير
أضاف القيادي أنّ “التطوّر الطبيعي في مسار المقاومة بعد عملية طوفان الأقصى ومعركة غزة، هو العمل على الانتقال من تكامل الساحات إلى وحدتها، وهذا الانتقال يستدعي وعياً تاريخياً وإدراكاً عميقاً للتحوّلات والتحدّيات والعقبات. إذ إنّه لا تكافؤ استراتيجياً مع العدوّ خارج معادلة وحدة الساحات، والمواجهة الاستراتيجية مع العدوّ هي فعليّاً مواجهة في الآن ذاته مع حلفائه الغربيين، وتحديداً الولايات المتحدة، والتعقيدات السياسية التي تعيشها كلّ ساحة في المواجهة والتي عبّرنا عنها بـ”الخصوصية المحلية”، هي عقبات سياسة لا يجوز إغفالها على الرغم من القدرة على تجاوزها”.
إقرأ أيضاً: قلق دبلوماسيّ: ماذا سيفعل الحزب؟
ختم القيادي: “في حين ينشغل كلّ الذين يعادون المقاومة في البحث في اليوم التالي، وعن صيغة انتقالية للحكم في غزة وعن الصيغة النهائية لإنهاء القضية الفلسطينية، حمايةً للكيان من المخاطر الوجودية التي تتهدّده… فإنّه مع حرب غزة تأخذ نظرية الحروب “اللامتوازية” بين الجيوش التقليدية والقوى غير النظامية، أبعاداً جديدة، أو يجري تأكيدها على نحو أكثر وضوحاً. فالتفوّق في القدرات التدميرية للجيش النظامي لم يعد حاسماً البتّة في إنهاء الحرب أو تحديد نتائجها، كما أنّ التفوّق التكنولوجي والتسليحي بات محدود التأثير في مواجهة حلول مبتكرة وخلّاقة وصناعات عسكرية محلية شبه بدائية لكن شديدة التأثير. لذا علينا صياغة مشروع سياسي جديد للمستقبل في ضوء نتائج هذه المعركة الضخمة ووضع الآليّات المناسبة لتنفيذه”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: KassirKassem@