كلام رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، عن النظام السياسي، ليّن اللهجة، جامع المضمون. ما يزيد في طبيعته هذه هو كلام الوزير ملحم رياشي الذي كان غامراً بعاطفته نحو الحزب. لكنّ معالجة اتفاق الطائف الآن أمر عسير. وإن كان ثمّة ما يُحاك في غرف العناية الفائقة الدولية بشأن الدستور اللبناني، فإنّ اللبنانيين جميعاً يعلمون أنّ الدخول فيه من دون توافق عليه لا يعني إلّا الوبال على الجميع.
حتماً ليس الدكتور جعجع والوزير رياشي من يدفعان بهذا الوبال إلى الأمام. أداء أهل النظام، منذ إقرار الطائف، وفي ظلّ هيمنتين متعاقبتين سوريّة وإيرانية، هو من فعل ذلك. وليس ثمّة عاقل اليوم يرغب في تدمير الهيكل على نفسه أوّلاً، وعلى خصومه السياسيّين ثانياً.
القوات اللبنانية جزء من التركيبة اللبنانية. هي صاحبة تضحيات مع الكنيسة المارونية زمن البطريرك مار نصر الله بطرس صفير في إقرار الطائف، ويُفترض بما يُطرح في هذا السياق أن يكون هدفه بالمعنى السياسي زيادة مناعة أعصاب البلد السياسية. لكنّ ما يحصل هو العكس تماماً، ذلك أنّ تصديع اتفاق الطائف يهدّد البلد ويضع أهله على قلقٍ بجميع طوائفهم وفئاتهم.
ليس الدكتور جعجع والوزير رياشي من يدفعان بهذا الوبال إلى الأمام. أداء أهل النظام، منذ إقرار الطائف، وفي ظلّ هيمنتين متعاقبتين سوريّة وإيرانية، هو من فعل ذلك
الطائف جواب وليس إشكاليّة
عملياً، جاء اتفاق الطائف عقداً سياسيّاً ليُنهي إشكاليّةً وُلدت مع استقلال البلد عام 1943. الإشكاليّة عبّر عنها المفكّر جورج نقّاش، عام 1947، بدقّة متناهية، عندما قال: “سالبتان لا تصنعان وطناً”. آنذاك نظر نقّاش إلى الميثاق الوطني من ضمن لاءات المسيحيين والمسلمين. هذه اللاءات كانت السالبتين:
ـ قال المسحيون إنّهم لا يريدون أن يكون لبنان جزءاً من سوريا.
ـ وقال المسلمون إنّهم لا يريدون الانتداب الفرنسي.
في الميثاق، حينها، كان تساؤل نقّاش نوعاً من الإجابة على تعيين السالبتين. ذلك أنّنا نعرف ما لا يريده المسيحيون لجهة جعل لبنان جزءاً من سوريا. ونعرف لماذا لا يريد المسلمون الانتداب الفرنسي. لكن في الحالتين لا نعرف ماذا يريد المسيحيون والمسلمون معاً. والآن ما يسود البلد من خلال استهداف الطائف شيءٌ من عودة لبنان إلى أربعينيات القرن الماضي.
هذه المعادلة-المعضلة حمل اللبنانيون صليبها على امتداد سني الجمهورية الأولى مروراً بأحداث عام 1958، ودخلنا منها إلى الحروب الأهليّة المُلبننة، وانتهت في لحظة إقليمية ودولية بالإجابة على جورج نقّاش. كان ذلك عندما قال اتفاق الطائف إنّ لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، عربيّ الهويّة والانتماء. هكذا صالح العقد السياسي لاتّفاق الطائف المسلمين مع نهائيّة الكيان اللبناني، وصالح المسيحيين مع عروبتهم. وهنا تكمن أهميّة اتفاق الطائف وسرّه ووظيفته.
ربّما آن أوان قول كلمة فصل في هذا المجال: اتفاق الطائف ليس اتفاقاً ينصّ على بنود معيّنة فقط، إنّما هو يمثّل جوهر الإشكالية اللبنانية. رفض الاتفاق الآن، أو اعتبار أنّه ليس صيغةً قابلةً للحياة، هو رفض للعقد الاجتماعي السياسي بين اللبنانيين.
القوات اللبنانية جزء من التركيبة اللبنانية. هي صاحبة تضحيات مع الكنيسة المارونية زمن البطريرك مار نصر الله بطرس صفير في إقرار الطائف، ويُفترض بما يُطرح في هذا السياق أن يكون هدفه بالمعنى السياسي زيادة مناعة أعصاب البلد السياسية
جعجع ليس وحيداً
في عام 1989، ومع إقرار “وثيقة الوفاق الوطني”، رفض الثنائي الشيعي الاتّفاق. حركة أمل كانت ترى أنّ المسيحيين أخذوا أكثر ممّا يستحقّون. أمّا الحزب فقد رأى أنّ هذا الاتفاق يرتكز على دستور مدني، بينما هو حزباً يمثّل حالةً إسلاميةً. حتى الزعيم وليد جنبلاط كان في مكان ما يتقاطع مع حركة أمل في موقفها.
على الجهة المُقابلة، كان الفريق المسيحي الذي يمثّله (الرئيس) ميشال عون يرى إلى الاتفاق على أنّه أخّر المسيحيين درجةً في النظام وأعطى المسلمين درجةً إضافيةً، أي في مكان ما فإنّ قوّة إسلامية وازنة شيعية ـ درزية اعتبرت أنّ هذا الاتفاق أعطى ضمانةً للمسيحيين. بينما هناك فريق مسيحي وازن اسمه السياسي ميشال عون اعتبر أنّ هذا الاتفاق أخرج المسيحيين وأضعفهم.
فقط فريق مسيحي تمثّله الكنيسة والقوات لبنانية في عام 1989، وفريق مسلم يمثّله آنذاك الرئيس رفيق الحريري، منحا الغطاء الوطني لاتفاق الطائف. اليوم وبعيداً عن محاكمة أيّة شخصية، لا يزال الفريق المسيحي التقليدي الذي رفض اتفاق الطائف رافضاً هذا الاتفاق، وأكبر دليل على ذلك تفاهم التيار الوطني الحر مع الحزب في شباط 2006، على قاعدة أنّ هذه الثنائية المارونية ـ الشيعية تعطي المسيحيين ما فقدوه في اتفاق الطائف، وتعطي الحزب شرعيةً وطنيةً، وبالتحديد مسيحية.
أسئلة قلقة
قول الدكتور جعجع إنّه جرّب اتفاق الطائف ولم ينجح، وهو دفع ثمن ذلك وعن حقّ، كما أنّه جرّب فذلكة 14 آذار في عام 2005، ومن دون نتائج، وهو ما يبعث على قلق كثير. ولأنّه جرّب هذا وجرّب ذاك، يريد اليوم تغيير النظام، وبالتالي بدل أن يتمسّك أكثر باتفاق الطائف، وأن يعيد الفريق المسيحي الرافض للاتفاق إلى “الطائف”، وأن يأتي بالفريق الشيعي الرافض للاتفاق أيضاً، فقد انضمّ إلى الذين رفضوا اتفاق الطائف عام 1989.
هذا وذاك يحتملان الصواب والخطأ، لكن تنبعث منهما الأسئلة التالية:
1 ـ هل الخلل في النظام؟ أو الخلل في من منع تنفيذ النظام؟ أي هل الخلل في نصّ في متن العقد السياسي التاريخي الذي أنجز تسويةً تاريخيةً بين اللبنانيين؟ أم الخلل كان مرّةً عبر السلاح السوري الذي منع تنفيذ النظام، ومرّةً ثانيةً من خلال السلاح الإيراني واسمه الحزب؟
في هذا المجال، كان البطريرك صفير، أحد آباء التسوية التاريخية، يقول إنّنا يجب أن لا نمسّ اتفاق الطائف وأن نكتشف نقاط ضعفه لنتجاوزها أو أن ندخل عليها إصلاحات فيما بعد.
2ـ النقطة الثانية هي أنّه إذا اكتشفت القوات اللبنانية فعلاً أنّ هذا الاتفاق لا يمثّل مخرجاً للبنان، فما هو الحلّ عند القوات؟ وما هي الصيغة التي يحاول أن يناقشها الدكتور سمير جعجع مع الأفرقاء الآخرين في لبنان؟ وهل الخروج من اتفاق الطائف وطرح الأزمة وكأنّها أزمة نظام وليست أزمة سلاح، أو احتلال سياسي إيراني فاقع، هما الحلّ؟
إقرأ أيضاً: رئاسة الجمهوريّة في طابور الانتظار الطويل
3 ـ عن صواب سياسيّ تكلّم الدكتور سمير جعجع عن أنّ السياسة هي نتيجة موازين قوى، لكنّ السؤال هو: هل يعتبر أنّ موازين القوى اليوم تسمح بمقاربة من هذا النوع بين اللبنانيين؟
4 ـ لماذا يتخلّى الفريق المسيحي الذي يحمل شرعية الدفاع عن اتفاق الطائف منذ عام 1989 عن هذا الاتفاق اليوم من دون بديل سياسي؟ وماذا يحاول القول من خلال خروجه من هذه الصيغة والبحث عن صيغة جديدة؟
5 ـ هل يستدعي الدكتور سمير جعجع انتباه المملكة العربية السعودية؟
إذا لم يكن كذلك، فإنّ ما قام به رئيس حزب القوات اللبنانية هو إضرام النار في المراكب مع جميع اللبنانيين، والدخول مجدّداً إلى عزلة سياسية قد يدفع ثمنها كلّ لبنان.
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@